
بنشاب : في زمنٍ اختلط فيه صوتُ العدالة بصدى السياسة، وتداخلت فيه قاعات المحاكم بممرات النفوذ، يطلّ علينا قرارٌ مشوبٌ بالريبة، ممهورٌ بتوقيع الانحراف عن جادّة القانون، ومؤطرٌ في غلافٍ من التسييس الفجّ. قرارٌ ليس غايته إحقاقَ الحقّ بقدر ما هو مسعى لتكميم التاريخ، وتلويث سجلّ رجلٍ أقضّ مضاجع الفساد، وهزَّ عروش المستبدّين بالمال والنفوذ.
لقد جاء قرار الغرفة الجزائية بالمحكمة العليا رقم 2025/210 صورةً أخرى من صور الانحراف القضائي، حين تجرّأت على صلاحياتٍ ليست من شأنها، واستبدلت رداءَ العدالة بثوب الخصومة السياسية. كيف يُعقل أن يترأس رئيسُ المحكمة العليا غرفةً جزائيةً، وهو ذاته طرفٌ في المشهد السياسي، يرفع رايةَ الحزب الحاكم؟ إنّ العدالة حين تمتزج بالولاء، تفقد سموّها، ويغدو حكمُها صدىً لأوامر المكاتب لا لمنطوق القوانين.
ثمّ إنّ الدستور الموريتاني، في مادّته الثالثة والتسعين، فصل القول الفصل في هذا الباب، حين قصرَ محاكمةَ رؤساء الجمهورية على محكمة العدل السامية دون غيرها. فكيف تسوّل لنفسها جهةٌ قضائية عادية أن تتعدّى حدودها وتغتصب اختصاصاً دستوريّاً محصّناً؟! إنّ ما بُني على باطلٍ فهو باطل، والقرار إذن ساقطٌ سقوطَ الورق اليابس في مهبّ الريح.
أما الادّعاء على الرئيس محمد ولد عبد العزيز، فهو افتراءٌ ملفوفٌ بغبار السياسة، يُراد به محوُ صفحةٍ من تاريخ رجلٍ حمل الوطن على كتفيه عقداً من الزمان، صان حدوده، وحمى قراره السيادي من عبث الدوائر الأجنبية، وجعل من محاربة الفساد نهجاً لا شعاراً. لقد أرادوا محاكمته لأنه لم يساوم، ولأنّه كان يرى في السلطة تكليفاً لا ترفاً، ومسؤوليةً لا غنيمة.
إنّ ما سُمّي «ملف العشرية» لم يكن يوماً بحثاً عن الحقيقة، بل كان سعياً لتبريرها مسبقاً. أُعدّت المسرحية وأُسدل الستار، غير أنّ التاريخ لا يكتب بنصوص معدّةٍ سلفاً، بل بما يثبته الزمن من آثار الرجال ومواقفهم. ومحمد ولد عبد العزيز سيبقى، في وجدان شعبه، رمزاً للعزم والإباء، مهما غيّروا عناوين الأحكام وتلاعبوا بمنطوقها.
إنّ هيئة الدفاع وهي تسجّل موقفها من هذا القرار، لا تفعل ذلك بدافع المجاملة، بل إحقاقاً لميزانٍ اختلّ، ولعدالةٍ أُريد لها أن تُفرّغ من معناها. فالقرارات السياسية تموت بانتهاء دوافعها، أمّا مواقف الرجال فتبقى ما بقيت القيم. ولئن أصدروا قرارهم اليوم، فإنّ التاريخ سيصدر غداً حكمه العادل، وفي محكمته لا يُستأنف الحقّ ولا يُنقض الإنصاف.
من ص/ Brahim Abdellahi
