حين تغتصب البراءة مرتين : مرة بالفعل, و مرة بالمعنى....

أربعاء, 24/12/2025 - 23:37

بنشاب : ليست الجرائمُ الكبرى تلك التي تُرتكَب في الخفاء فحسب، بل تلك التي إذا أُزيح عنها ستارُ الصمت انكشفت معها عوراتُ الضمير الجمعي، وتهشّم فيها معنى الإنسان قبل أن يُكسر الجسد. فما روتْه مريم سيسه ليس مجرد حكايةِ اعتداءٍ عابر، بل شهادةُ عصرٍ على انحدارٍ مركّب: انحدار الفعل، وانحطاط الدافع، وانكسار العدالة حين تتأخر عن النداء.

تتقدم مريم سيسه إلى فضاء الكلام مثقلةً بما لا يُحتمل، شاهدةً على جريمةٍ تداخل فيها العنفُ بالتمييز، وتزاوج فيها السلاحُ الأبيض مع سواد النية. تحكي، لا لتستدرّ عطفًا، بل لتُقيم حجةً على واقعٍ صار فيه الجسدُ الأنثوي ساحةَ تصفيةٍ رمزية، وتحوّل فيه اللونُ إلى ذريعةٍ للاختيار والإقصاء.
تقول إن المعتدي اقتحم المكان كمن يقتحم معنى الأمان ذاته؛ أخذ المال بيدٍ، وباليد الأخرى مارس فعلًا لا اسم له إلا السقوط. اغتصب فتاتين لِما رآه في بشرتهما من «اختلافٍ» اختزله في وهمٍ آثم، وترك الثالثة لأن سواد الجلد ـ في منطقه الأعوج ـ معيارُ نجاةٍ لا كرامة. ولم يكتفِ بالفعل، بل أتبعه بقولٍ كاشفٍ لجوهر الجريمة: ادّعى دافعًا عنصريًا، وردّد أن «البيظان يستحقون القتل». هنا لم يعد الاعتداءُ جسديًا فحسب؛ صار خطابًا، وصارت الكلمةُ خنجرًا موازيًا.
إنها جريمةٌ بوجهين: وجهُ اغتصابٍ يعتدي على الطفولة ويصادر المستقبل، ووجهُ كراهيةٍ تُسقِط الإنسان من تعريفه، وتُعيده رقمًا في قاموس الحقد. ففي دار النعيم لم تُنتهك حدودُ بيتٍ فقط، بل انتُهكت حدودُ المعنى: معنى المواطنة، ومعنى المساواة، ومعنى أن يكون القانونُ سقفًا لا يُثقَب.

إن رواية مريم سيسه ليست بكاءً في فراغ، بل وثيقةُ اتهامٍ أخلاقي قبل أن تكون ملفًا قضائيًا. وهي تذكيرٌ بأن العدالة إذا لم تُسارع، تحوّل الألمُ إلى ذاكرةٍ ناقمة، وتحوّل الصمتُ إلى شراكة. فهنا يجب أن تتكلم الدولة بصرامة القانون، ويتكلم المجتمع بوضوح القيم، وتتكلم النخبة بصدق الموقف.
لأن الاغتصابَ جريمةٌ مكتملة الأركان، والعنصريةَ جريمةُ معنى، واجتماعهما سقوطٌ مضاعف. ولأن إنصاف الضحايا ليس منّةً، بل واجبٌ يردّ للإنسان اسمه، وللعدالة هيبتها، وللكلمة شرفها