سفر الدولة حين يكتب بالحبر لا بالحجر

سبت, 20/12/2025 - 18:22

ليس من عادةِ التاريخِ أن يُنصتَ للضجيج، ولا من طبيعته أن يُصافحَ الأهواء؛ إنّه كائنٌ أصمٌّ عن الصراخ، بصيرٌ بالأثر. وحين يُذكَرُ اسمُ محمد ولد عبد العزيز، فإنّ الذكرى لا تُستدعى همسًا، بل تأتي مُثقلةً بوقائعَ قامت على الأرض، لا في الخيال، وبمشاريعَ نُقشت في الجغرافيا قبل أن تُسطَّر في الخطب. إنّ الحديث عن محمد ولد عبد العزيز حديثٌ عن عشرِ سنينٍ سالت كالسيل: حملت طميَ البناء، وخلّفت أيضًا صخورَ الجدل، غير أنّ السيلَ يُعرَفُ بما يغيّر، لا بما يُقال عنه.

في التعليم، حيث تُصاغُ الأممُ قبل أن تُدار، ارتبط اسمُ محمد ولد عبد العزيز بمدارسِ الامتياز، لا بوصفها جدرانًا مصبوغة، بل بوصفها إعلانَ قطيعةٍ مع التعليم الكسير. من الحي الساكن إلى السبخة، ومن الميناء إلى لكصر، ومن تفرغ زينة إلى تيارت، ثم إلى مدارس الترحيل والداخل، بدا التعليم في عهد محمد ولد عبد العزيز مشروعَ دولة، لا صدقةَ ظرف.

وفي الصحة، حيث يُمتحَن صدقُ الحكم، ارتفع في زمن محمد ولد عبد العزيز صرحُ مستشفى القلب، ومركزُ علاج الأورام، ومستشفى الصداقة، ومستشفى الفيروسات والأمراض المعدية، ومرفقُ الحروق، ومستشفى الأم والطفل، ومستشفى العيون، ثم المستشفى المتعدد التخصصات في نواذيبو، ومستشفيات كيفة والنعمة وكيهيدي وأطار. هناك، تحوّل العلاج من رحلةِ اغترابٍ إلى حقٍّ مقيم، وصار الجسدُ الوطنيّ أقلَّ وحدةً في ألمه.

وفي التعليم العالي، حمل عهدُ محمد ولد عبد العزيز ملامحَ جامعةٍ عصرية، وكلياتٍ للطب والقانون والاقتصاد والعلوم والآداب، ومعها جامعةٌ إسلامية، كأنّ الرجل أراد للعقل أن يتسلّح بالعلم، وللروح أن تتكئ على الأصالة، فلا تغرق هذه في الماضي، ولا تتيه تلك في الفراغ.

وفي الاقتصاد الإنتاجي، اقترن اسمُ محمد ولد عبد العزيز بمحاولة بعثِ شركاتٍ وطنية للتمور والألبان، في إشارةٍ إلى ربط الأرض بالإنسان، والزراعة بالسيادة، وكأنّ الأمنَ الغذائيّ عنده كان فصلًا من فصول الأمن الوطني.

وفي هيبة الدولة، شُيّدت وزارةُ الخارجية، وقام مجمّعٌ وزاريّ شامخ، وتوسّعت شبكةُ السفارات، وانتشرت مخافرُ الشرطة، وبناياتُ الحكّام، حتى غدا حضورُ الدولة في الفضاء العام أكثر كثافةً، وأقلَّ هشاشةً، في عهد محمد ولد عبد العزيز.

أما في العمران الاجتماعي، فقد كان اسمُ محمد ولد عبد العزيز حاضرًا في تخطيط الأحياء الشعبية، وفي ترحيل آلاف الأسر من الحي الساكن، ولمغطي، وفيراج الديك، وكزرة عرفات، وكزرة توجنين، إلى أحياء منظّمة، مشمولة بالماء والكهرباء، ومفتوحة الشوارع. لم يكن الترحيل عند محمد ولد عبد العزيز مجرّد نقلِ بشر، بل إعادة رسمٍ للمكان، ليغادر العشوائيُّ صفةَ القدر.

وفي العدالة الاجتماعية، وُزّعت القطعُ الأرضية على الأئمة، والمعوقين، والدرك، والحرس، والشرطة، ومتضرّري حروب الجوار. وفي الوظيفة العمومية، اكتُتب الأئمة، ودُعّمت الكوادر الطبية، واستُوعب المعلمون والأساتذة، ودُمج مئاتُ المعوقين، حتى بدا عهدُ محمد ولد عبد العزيز وكأنّه محاولةٌ لإدخال المهمّشين إلى متن الدولة.

وفي القيم والرمزية، شُجّع حفظةُ القرآن، وكُرّم المتفوّقون علميًّا، وأُعلي شأن الصغار الحفّاظ، وحملة الأربعين حديثًا، ومدّاحي الرسول ﷺ، ليقول محمد ولد عبد العزيز – بالفعل لا بالشعار – إنّ الدولة لا تقوم بالخرسانة وحدها، بل بالمعنى.

وفي الأمن والسيادة، اقترن اسمُ محمد ولد عبد العزيز بضبط الحالة المدنية، وتطهير البلاد من الإرهاب، وتأمين الحدود برًّا وبحرًا وجوًّا. وفي السياسة، صونٌ لحرية الرأي، وسنٌّ للقوانين، وإن اختلف الناس في سقف ذلك، غير أنّ الوقائع تُسجّل ما تحقق، لا ما تمنّته الخصومات.

وفي المعيشة اليومية، فُتحت دكاكين الأمل، وكُهِربت المدن، وفُجّرت بحيرة أظهر، وتأسّس جيشٌ بالعتاد، وشُيّدت طرقٌ، وأنشئت مدن، ونُظّمت قممٌ عربية وأفريقية وإسلامية، وتأسّست مجموعة دول الساحل (G5). كلّ ذلك كُتب في زمن محمد ولد عبد العزيز، لا بالحبر، بل بالإسفلت والحديد.

ثم جاءت الخاتمة القاسية: السجن. وهنا تتجرّد البلاغة من الزينة، ويقف العقل عاريًا أمام السؤال. سُجن محمد ولد عبد العزيز، وبقي الأثر. فهل يُمحى البناء بالقيد؟ أم يُقاس الرجال بما أنجزوا ثم بما ابتُلوا به؟ إنّ طباعة المصحف شرفٌ عظيم، لكنها لا تمحو الأخطاء، كما أنّ الأخطاء لا تُعدم الإنجازات؛ فالتاريخ لا يعرف التبييض المطلق، ولا السواد الكامل.

هكذا يبقى اسمُ محمد ولد عبد العزيز حاضرًا، كثيفًا، إشكاليًّا، عصيًّا على الاختزال. رجلٌ حكم عشر سنين، فترك دولةً لها ملامح، ثم خرج من الحكم إلى قسوة المحنة. وبين البناء والسجن، يتعلّم القارئ درسًا قديمًا متجدّدًا: أنّ السلطة امتحان، وأنّ الأثر هو الشاهد الأخير، وأنّ محمد ولد عبد العزيز – مهما اختلف الناس فيه – سيظل اسمًا محفورًا في جسد الدولة، لا تمحوه الخصومة، ولا تُقدّسه العاطفة، بل يقرؤه التاريخ كما هو: بميزانٍ لا يميل، وقلمٍ لا يرتعش.

من ص : brahim abdellahi