
بنشاب : في حياة الأمم لحظاتٌ تختبر قدرتها على الاعتراف، وحين تفشل في هذا الامتحان، تتحوّل الذاكرة إلى عبء أخلاقي يرافقها جيلاً بعد جيل. وما جرى في موريتانيا خلال أواخر الثمانينيات وبدايات التسعينيات لم يكن مجرّد أحداث سياسية مرتبطة بأزمة حدود مع السنغال، بل كان جرحًا وطنيًا عميقًا انكشف فيه ضعف الدولة أمام سؤال المواطنة وعمق المأساة بالنسبة للزنوج الموريتانيين الذين وجدوا أنفسهم فجأة خارج وطنهم، أو خارجه معنويًا على الأقل.
منذ استقلال البلاد، اتخذت السلطة شكلًا غير متوازن، إذ تركزت القوة في يد فئة واحدة دون غيرها، لا لأن أفرادها أشرار، بل لأن البنية الاجتماعية التاريخية — القائمة على الإرث القبلي والطبقي — صنعت هرمًا غير عادل. بقي السود والزنوج في أسفل هذا الهرم، يعانون التهميش في الإدارة، والتعليم، والتمثيل السياسي، والجيش، رغم أن القوانين — على الورق — كانت تتحدث عن دولة ومواطنة. وحتى بعد إلغاء العبودية في 1981، كان الواقع الاجتماعي يواصل إنتاج تمييز صامت لكنه مؤذٍ، يتسرب إلى المؤسسات والخيارات الإدارية والانحيازات اللاواعية.
في هذا السياق ظهرت حركة FLAM سنة 1983، كصرخة احتجاج تبحث عن المساواة لا عن الانفصال، وعن الاعتراف لا عن الصراع. ومع أن خطابها لم يكن خاليًا من الأخطاء، فإن تجاهل مطالبها، ومحاولة تصويرها كمنظمة تهدد الوحدة الوطنية، لم يكن حلاً. فالحقوق لا تُلغى بالإنكار، والتمييز لا يختفي بالصمت، بل يتفاقم حتى ينفجر في لحظة ضعف سياسي أو احتقان اجتماعي.
وحين اندلعت أزمة 1989 مع السنغال، كانت البلاد تقف على أرضية هشة أصلًا، فانزلقت الدولة — سياسيًا وأخلاقيًا — إلى واحدة من أحلك صفحات تاريخها. فبدل أن تُدار الأزمة بعقل الدولة الرشيدة، وميزان العدل، وحق الإنسان في الأمن والكرامة، تحولت إلى حملة انتقامية صامتة استهدفت السود والزنوج داخل البلاد. تم نزع الهويات، وطرد عشرات الآلاف خارج الحدود، ومصادرة ممتلكات ومزارع، وفُصل موظفون وضباط، وتعرض آخرون للاعتقال والتعذيب، وسقط قتلى لا تزال قبورهم مجهولة أو حكاياتهم حبيسة أفرادٍ متفرقين.
لم يكن هؤلاء الموريتانيون غرباء ولا وافدين؛ كانوا أبناء الأرض، يحملون أوراقًا موريتانية أبًا عن جدّ. لكن الدولة، في لحظة انكسارٍ أخلاقي، عاملتهم بمنطق اللون، لا بمنطق الحق. ثم جاء قانون العفو سنة 1993 ليطوي الصفحة رسميًا، لا ليكشف الحقيقة، فتمت حماية الجناة بدل حماية الضحايا، وأصبح الألم جزءًا من صمت رسمي طويل.
وبينما أخطأت حركة FLAM في بعض خطابها الحاد، فإن خطأها لا يُقارن بخطأ الدولة التي تمتلك القوة وتتحمل المسؤولية. فالاحتجاج مهما كان حادًا، يظل في النهاية صوتًا ينتج عن ظلم. أما القمع باسم الدولة فهو جرح وطني لا يمكن تبريره. لذلك لا بدّ من قراءة المأساة بميزان الإنصاف: نقدُ الحركة حيث أخطأت، ونقدُ الدولة حيث ظلمت، لكن من موقعٍ أخلاقي يرى الضحية قبل الحسابات السياسية.
المؤلم في هذه المأساة ليس وقوعها وحده، بل صمت المجتمع إزاءها. فبين الخوف، واللامبالاة، والولاء الأعمى للسلطة، مرّت الأحداث وكأنها وقعت في وطنٍ آخر. المدارس لم تدرّسها، والكتب الرسمية تجاهلتها، والاحتفالات الوطنية صنعت صورة لبلد بلا تشققات، بينما كانت عائلات كاملة بلا هوية، بلا قبرْ لفقيد، وبلا دولة تعترف بأنها أذنبَت.
لكن الذاكرة التي تُهمل تتحول إلى لعنة. فالآلام المكبوتة تبحث دائمًا عن صوت، وإن لم يجد الإنسان اعترافًا، لجأ إلى المنفى أو إلى الاحتجاج أو إلى الرفض الصامت. هكذا بقيت هذه المأساة تُستعاد كل عام: احتجاجات خفيفة، شهادات مكتوبة، وثائق تُنشر عبر منظمات حقوقية، وأبناء لا يعرفون لماذا طُرد آباؤهم من وطنهم إلا لأنهم “سود”.
إن الخروج من هذه الظلمة لا يحتاج إلى مزيد من الصراعات، بل إلى شجاعة أخلاقية نادرة في عالم السياسة: الاعتراف. الاعتراف بما جرى، بلا تبرير ولا التواء. الاعتذار الرسمي للضحايا. تعويض المتضررين واستعادة ممتلكاتهم. إعادة كتابة المناهج التعليمية لإدراج هذه الحقبة بوصفها درسًا في معنى الظلم وخطر العنصرية. إصلاح الدولة حتى تتسع للجميع، ويشعر كل موريتاني — مهما كان لونه أو لغته — بأنه ابن هذا الوطن لا ضيف فيه.
فالمصالحة الحقيقية لا تبنى على النسيان، بل على مواجهة الحقيقة. والعدالة ليست هدية تُمنح، بل حق تُعاد إليه مكانته. والدولة التي تعترف بجرحها لا تُهين نفسها، بل تُكرّم مستقبلها.
ليس السؤال اليوم: من كان مخطئًا؟ بل السؤال الأعمق: هل نملك الشجاعة لنقول إن ما حدث كان ظلمًا، وأن الضحايا يستحقون الإنصاف؟
فالأمم التي تخاف من تاريخها لا تستطيع أن تبني مستقبلًا. والأوطان لا تعيش بالهروب من ذاكرتها، بل بالتصالح معها، مهما كانت مؤلمة.
وهكذا، فإن مأساة الزنوج في موريتانيا ليست حدثًا تاريخيًا فحسب، بل مرآة تُرينا ما كنا، وما يجب ألا نكونه مرة أخرى. وهي امتحانٌ أخلاقي للدولة والمجتمع معًا. وإذا أرادت البلاد أن تمضي إلى غدٍ أفضل، فعليها أن تبدأ من هنا: من الحقيقة… ومن الإنصاف… ومن احترام الإنسان أيًّا كان لونه.
