
بنشاب : في ساحة القول، حيث تتمايز الألسن بين صدقٍ وزيف، تبرز فئةٌ تقتات من الحقد كما يقتات الغراب من الجيف، فلا تنطق إلا بما يعكس ما في صدورها من دخانٍ وعتمة.
هم ثلاثةٌ، جمعهم الوجع من علوّ رجلٍ لم يبلغوا قامته، فاختاروا أن يرموا نجمه بالحجارة، لعلّها تُطفئ ضوءه، وما علموا أن النجم لا يُطال، وأن السماء لا تُجرح بمدىً من تراب.
منى منت الدّي،
إنّ المواقف حين تتلوّن، تفقد وقارها، وحين تُبنى على الانفعال لا على الإدراك، تبدو كظلٍّ يمشي خلف الضوء لا يدركه.
لقد ظهر قولكِ كمن يريد أن يرفع منسوب الضجيج ليغطي فراغ الحُجّة،
وكأنّكِ أردتِ أن تصوّري اختلافكِ مع الرجل على أنه يقينٌ ثابت،
لكنه بدا أقرب إلى مرآة تتبدّل صورتها بتبدّل الزاوية، لا بثبات الفكرة.
وإنّ من يتأمل مسار كلماتكِ يرى فيها تقلّبًا لا يثبت على قرار،
وميلًا إلى قراءة اللحظة أكثر من قراءة المعنى،
وكأنّكِ تحملين خصومةً تولد في ساعة وتموت في ساعة،
فتغدو كغيمةٍ تتشكل من حنقٍ عابر، لا من رؤية ناضجة.
حنفي الدهاه، من ظنّ أن البيان يُغني عن البرهان، فأسرف في تلوين الزيف حتى ظنّه حقيقة. يكتب بمدادٍ من مرارةٍ دفينة، كأن قلمه لا يقطر حبرًا بل دخانًا.
كلماته تلوح كأنها لآلئ، فإذا اقتربت منها وجدتها قواقع خاوية، لا روح فيها ولا فكر، تنفخها الرياح فتعلو قليلًا ثم تسقط حيث كانت: في وحل الحقد.
أما عبد الله اتشغ المختار، فهو الذي جعل من القلم مطيّةً لتصفية الضغائن، يَنسج العبارات كما ينسج العنكبوت شِباكَه، يظنها متقنةً وهي أوهى من خيطٍ في مهبّ الصدق.
تراه يجلد الهواء بتأويلاته، ويخاصم الظلّ في وضح النهار، لا يملك من النقد إلا ما يحمله الغيظ من عثراتٍ وأمنياتٍ دفنتها الخيبة.
وأما عبد الرحمن ودادي، فصوتٌ يجلجل من فراغٍ، يتزيّن بحدة العبارة ليستر خواء الفكرة.
ينادي بالحقّ زعمًا، وهو أبعد الناس عنه، يُحاور بعينٍ مغلقةٍ وقلبٍ محشوٍّ بنوايا الغدر.
كأنه أراد أن يطفئ شمسًا بنَفَسه، فاحترق بنارها قبل أن يطالها.
ثلاثتهم اجتمعوا على رجلٍ لم يعرف إلا الصدق في العمل والعزم في القرار، رجلٍ مضى حيث يتردّدون، وبنى حيث يهدمون، وأعزّ وطنه يوم كان الآخرون يبحثون عن موطئ قدمٍ بين المصالح.
إنه محمد ولد عبد العزيز — الرمز الذي تكسرت على عتبة اسمه سهام الحقد، وبقي صرحه صامدًا لا تهزّه العواصف.
هم أرادوا أن ينالوا منه، فارتدّ كيدهم إلى نحورهم، إذ لا ينال الضعيف من الجبل إلا الغبار.
وهكذا، ما زالوا يرمقون المجد من أسفل الوادي، يرفعون أبصارهم إلى قِممٍ لا تطال، ويتساءلون في غيظٍ مكتوم: كيف يظلّ الرجل في عليائه ونحن في أسافل حقدنا؟
الجواب عند من يعرف سنن العظمة:
أن الكلمة إذا خرجت من قلبٍ طاهرٍ رفعت صاحبها،
وإذا خرجت من صدرٍ مريضٍ خنقته.
فليبقَ الحاقدون أسرى دخانهم،
وليبقَ محمد ولد عبد العزيز شاهدًا على أن الشرف لا يُنال بالخصومة، بل يُصان بالصدق ، وأنّ الحقّ مهما حورب، لا يموت... بل يزداد ضياءً.

