«حين يستعيد العقل صوته… الفلسفة في زمن الانبهار المظلم»

جمعة, 21/11/2025 - 10:35

بنشاب : في اليوم العالمي للفلسفة، أرفع تهنئتي إلى كلّ من يحمل السؤال في قلبه، إلى كلّ الذين يؤمنون بأن المعرفة ليست زينةً تُعلَّق على جدار، بل مركبٌ نُبحر به في محيط الوجود، وأهنّئ العالم كلّه، عالمًا يبحث رغم تمزّقه عن معنى يرمم داخله، وعن نورٍ يتجاوز صخب التقنية وسرعة التحوّلات. نعيش في زمنٍ تتكاثف فيه كلّ شيء: المعلومات، الأزمات، الخطابات، والضجيج… يزداد فيه اللمعان وتبهت فيه الرؤية، ويعلو فيه البناء بينما ينهار العمق؛ زمنٌ لا ينقصه التقدّم، بل ينقصه الاتجاه، ولا يعوزه العلم، بل تعوزه الحكمة. وفي قلب هذا الاضطراب، تستعيد الفلسفة موقعها الطبيعي: واحةُ تأملٍ في صحراء السرعة، وميزانٌ يعيد للعقل توازنه وسط اختلالات لا تُحصى، فالفلسفة ليست نشاطًا ذهنيًا مُنفصلًا، بل هي – في أصلها – فنّ تنظيم الإنسان من الداخل وإعادةُ ترتيب علاقته بذاته وبالعالم. إنّ جوهر الفلسفة اليوم يكمن في قدرتها على تحويل السؤال من جرحٍ مؤلم إلى قوةٍ كاشفة؛ سؤالٌ يجعلنا نرى ما وراء الأشياء، لا ما يُقدَّم لنا على السطح، ولعلّ من أعمق ما يعبّر عن دورها في هذا الزمن تلك الفكرة التي تقول: «حين تتراكم الوقائع بلا تفسير، تصبح الفلسفة ضرورة للنجاة»، فالإنسان الذي يملك الأشياء ولا يملك فهمها يشبه من يملك خارطةً بلا اتجاه. لقد صار العالم بحاجة إلى الفلسفة لا لتقديم أجوبة جاهزة، بل لتأسيس وعيٍ نقدي يحمي الإنسان من الانصهار في أنماط التفكير السريعة التي تسلبه فردانيته، وأمام تسارع لا يعترف بالروح، تُصبح الفلسفة شكلًا من أشكال المقاومة الهادئة؛ مقاومة للتفاهة، وللاستهلاك المفرط، وللانقطاع عن الداخل، فليس أخطر على الإنسان من أن يلهث طوال حياته دون أن يعرف لماذا يركض. وفي عمق هذا التصور يبرز المعنى القائل: «إن سرعة العالم لا تُلزم الروح بأن تُسرِع معه»، فالروح لا تزدهر تحت الضغط، بل تحت التأمل. وحين نعيد النظر في علاقتنا بالكون، ندرك أن الفلسفة تُحفّز في داخلنا ذلك الوعي الذي يجعلنا نرى العالم لا ككتلة أحداث، بل كنسيجٍ من المعاني، فهي تذكّر الإنسان بأنّه ليس مُجرّد شاهدٍ على التاريخ، بل فاعلٌ في صياغته، وأن الإجابة الحقيقية لا تُولد من الامتثال، بل من الجرأة على السؤال، ولهذا جاءت تلك الحقيقة الخالدة: «إن الإنسان لا يُقاس بما يملك، بل بما يستطيع أن يفهم». اليوم العالمي للفلسفة ليس مناسبة لتذكّر أسماء الماضي، بل دعوةٌ للإنسان المعاصر كي يصنع مستقبله بعقلٍ يقظ وروحٍ نافذة؛ إنه نداءٌ لإعادة الاعتبار للتفكير العميق، وللوعي الذي يرفض الانجرار خلف السطحيات، نداءٌ إلى كلّ إنسانٍ يريد أن يعيش حياته عن قصد لا عن عادة. وفي ختام هذا اليوم، أقدّم تهنئتي مرة أخرى لكل السائرين في طريق الفكر، ولكل الباحثين عن الحكمة وسط عواصف العصر، ولكلّ من يدرك أن الفلسفة ليست ترفًا، بل شرطٌ أساسي للحفاظ على إنسانيتنا، وأهنّئ العالم كله، عالمًا يستحق أن يُنقذ من فوضاه بمعرفة أعمق، وأن يُستعاد له صوته الداخلي. كل عام والفلسفة تُنير طريق البشرية… وكل عام والإنسان أصدق في مواجهة نفسه.

محمد لغظف محمد الأمين أبتي 

 رئيس منتدى أنصار الفكر