
بنشاب : في موريتانيا، لم يكن الإعلام يومًا مرآة المجتمع، بل كان في أغلب الأحيان مرآة النخبة، تلك التي تكتب وتتكلم أكثر مما تسمع. ومنذ ميلاد الدولة، لم تتكوّن لدينا “نخبة فكرية” بقدر ما نشأت “طبقة ناطقة”؛ تصدر الأصوات، ولا تنتج المعاني.
الإعلام عندنا لم يولد في رحم الحرية، بل في ظلال السلطة. حمل شهادة ميلاده من إذاعة الدولة، وصحيفة الحكومة، وتربّى على مقصّ الرقابة قبل أن يعرف معنى الكلمة. أما النخبة، فقد وُلدت معه في التوقيت نفسه: كلاهما وُجد ليُبرّر، لا ليُغيّر.
ولذلك ظلّ الإعلام في بلادنا يُعيد ما يسمعه كما يُعيد الصدى صوت الجبل؛ لا يضيف إليه شيئًا، بل يُجمّله أحيانًا أو يُضعف نبرته. أما حين حاول بعض الصحفيين أن يتحولوا إلى “أصواتٍ حرّة”، فقد جرى تحييدهم بمزيجٍ من الإغراء والتهديد: وظيفة في مكتب، أو قضية في المحكمة.
النخبة بدورها لم تكن بريئة من هذا التواطؤ. فهي التي اختارت أن تتحدث لغة السلطة، لا لغة الشارع. وأن تكتب في الصحف الرسمية أكثر مما تكتب في الذاكرة الشعبية. وحين دخلت وسائل التواصل الاجتماعي على الخط، لم تتحرر النخبة، بل انكشفت: من كان يُخفي عجزه وراء المصطلحات صار يختبئ اليوم وراء المنشورات.
لقد فقد الإعلام الموريتاني معناه حين فقدت النخبة بوصلتها.
فالصحافة التي لا تُزعج أحدًا لا تُفيد أحدًا، والنخبة التي لا تُحاسب نفسها لا تستحق أن تُحاسب غيرها.
يقول محمد يحظيه في إحدى مقالاته القديمة:
«الكلمة في بلادنا إمّا تُقال لتُنسى، أو تُقال لتُحسب على قائلها».
وهذا هو جوهر المأساة: حين تصبح الكلمة عبئًا، لا سلاحًا، وحين يتحول الإعلام من صوتٍ يوقظ إلى صدىٍ يُسكّن.
الإعلام الحر لا يُطلب من الدولة، بل يُنتزع من المجتمع. والنخبة الواعية لا تُعيَّن بمرسوم، بل تُبنى بالمعاناة والصدق. لكن في بلدٍ ما زال فيه الولاء أقصر طريقٍ إلى المنصب، يصبح الصمت مهارة، والمجاملة عقيدة.
اليوم، يعيش الإعلام الموريتاني بين مطرقة التمويل وسندان التبعية. والقنوات التي تُفتح كل موسم لا تختلف إلا في الشعار. أما الصحفي الحقيقي، فهو من يكتب وهو يعرف أنه قد يُمنع، لكنه يكتب لأن الصمت أخطر.
النخبة والإعلام إذن وجهان لعملة واحدة:
الأولى تُفكّر بلا جمهور، والثاني يُخاطب جمهورًا بلا فكر.
كلاهما في مأزق الوعي… بين الصوت الذي لا يُسمَع، والصدى الذي لا ينتهي.
خاتمة
حين تُغلق الصحف، ويصمت الكتّاب، يظن البعض أن البلد بخير. لكن الحقيقة أن الصمت ليس علامة استقرار، بل علامة خوف.
وما لم تتحرر الكلمة من الخوف، وتتحرر النخبة من المجاملة، سيبقى الإعلام مجرّد صدى… لنخبةٍ لم تتعلم بعد كيف تكون صوتًا.
#موريتانيا #صالون_انواكشوط #الشعب_الصيني_ماله_حل #Mauritania
