
بنشاب : دق أبي اليوم أجراس منتصف الستين من العمر و هو منفي خارج السراب الذي طالما ظنه جنة، وتوهمه الحضن الذي سينطق بكل لطف على جرح ضعفه حين يمسك عكاز العجز و ترسو به سفينة العمر على شاطئ النهاية !!
لكنه وبعد أربعة عقود من الخدمة المتواصلة في أنبل أسلاك العمل الوظيفي، وبعد أن أفنى شبابه و ضحى بباقات الفرص التي كانت تلاحقه كأستاذ جامعي شاب، و كاتب مبدع و باحث عبقري متمكن، و مرجع عظيم في العلوم الإنسانية والاجتماعية والأدبية والسياسية، وجد نفسه مرميا على سرير موحش في المركز الوطني لأمراض القلب، لا فرق بينه _في العناية_ و مهاجر غير شرعي تكسرت فجأة مجاديف صحته في أحد شوارع نواكشوط فحملته أيادي الصدفة إلى قاعات الإسعاف و الإنسانية بالمشفى!!
ثم بعد ذلك لم يستسلم و كان دائما يؤكد لنا يقينه بخروج يد المنقذ من قلب العلم الوطني، وثقته التامة في التأمين الصحي الذي ظل يقتطع من راتبه طوال حياته المهنية ما اعتمد عليه الوالد وظنه "الدرهم الأبيض الذي سيضيء يومه الأسود"، و لم تكن القضية بالنسبة له سوى مسألة وقت!
ثم مضى الوقت وظل المرض يكبر و خيبته تنمو يوما بعد يوم و أبواب الفرص في تمكينه من حقه في العلاج على حساب الدولة في الخارج تضيع بسبب موقف إحدى بناته المعارض للنظام، حتى حان موعد المواجهة والذي وجد _أبي_ نفسه فيه وحيدا يحمل جواز سفره متسكعا على بوابات السفارات الغربية يطلب تأشرة دخول إلى أوطان تركها قبل عقود عندما تخرج منها و هي مليئة بالفرص الذهبية لعالم اجتماع شاب يتقد حكمة ومعرفة، اختار العودة لبلده وسراب الوطن يناديه نحو الأعمق، ليعود إليها شيخا ضعيفا قد اشتعل رأسه خيبة و عقمت رحم بلاده عن إنجاب أجنة أحلامه المجهضة، يطلب العلاج من أمراضه العضال و يدفع لخزائنها العامة مقابل ذلك من مدخرات العمر الذي ضاع في تدريس أجيال من المثقفين و الوزراء و المسؤولين، الذين عجزوا عن رد الجميل لأستاذهم بالمطالبة له بتمكينه من حقه في العلاج على حساب الدولة، رغم تكفلها بعلاج شذاذ الآفاق و المنافقين و قوم الأ.لوان، وذلك خوفا على منافع زهيدة في صحونهم أو صحون أقاربهم..
أبي في ذكرى ميلادك كل عام و أنت بخير، كل عام و أنت مصدر فخري و قوتي و صمودي، لكنني أريد حقا معرفة أجوبة أسئلتي المترددة في ذهني لتخوشي من مواجهتها بنفسي في خاتمة العمر: ترى كيف وجدت طعم السراب و أنت تحتسي الآن فناجين الخيبة في الوطن الذي تخليت عن كل الفرص خارجه ليتخلى عنك في النهاية، يطلبك حمل بوق تزلف لأنظمته السياسية مقابل حصولك على حق من حقوقك و ذلك رغم اعتزالك السياسة قبل عقود من الزمن؟!
ماذا عن خذلان الأجيال العديدة التي طالما حدثتني عن فخرك و اعتزازك بالمشاركة في صناعتها و اعتزازك بنجاحاتها في تخصصاتها و وظائفها و عناوين تآليفها و بحوثها وهي تشاهد ماتعرضت له من ظلم دون حراك؟ هل تواجه شبح الندم أحيانا في لحظات وحدتك على أسرة المرض في زوايا وحشة الغربة !؟ هل هذه الوضعية المزرية هي ضريبة الإيمان بالوطن و التضحية من أجل المبادئ؟!
#بقوة_شعبها_موريتانيا_ستنتصر
