بنشاب : من غرفة صغيرة في الطابق السفلي لعمارة عتيقة في حي بروكلين، يفتح الحسن، لأول مرة منذ مغادرته أرض الوطن، جهاز الكومبيوتر ليستنسخ منه كتبا رقمية مقروءة ومسموعة، لعل فرصة للمطالعة تتاح له أثناء يومه الطويل في حانوت المقيم اليمني الذي يعمل معه.
غير أن الحسن، بعد نسخه لبعض الكتب وفتحه لبريده الإلكتروني، لحظ رسالة جديدة من ابن عمه وصديقه، تحوي مجموعة من الصور، استحثته منها صورة جوية وضَّاءة، التقطتها طائرة «درون DRONE» صغيرة وهي تحلق في سماء قريتهم الوديعة.
كان ذلك في الحملة الانتخابية الأخيرة، وبمناسبة مرور أحد المترشحين المحليين مر الكرام في رحلة صيد لأصوات الأهالي والبؤساء، عابرة للمقاطعات والولايات.
الشوارع المتعرجة مغبرة، والكثبان الذهبية العريضة مضيئة، لا يكسر احتكارها للشاشة إلا أشجار الطلح والمرْخ الصامدة. كل شيء يبدو متوهجا بحيوية برية وخام تفتقده أيما افتقاد تلك الغرفة الضيقة القابعة تحت عمارة نيويوركية عملاقة.
عندها تدفقت ذكريات المهاجر الشاب شلالا من الحنين، لينشد لابن أزرق قوله:
هَلْ عَلِمَ الطّائرُ في أَيْكه / بأنَّ قلبي للحِمى طائرُ؟
ذكَّرني عَهْدَ الصِّبا شَجْوُهُ / وكُلُّ صَبٍّ للصِّبا ذاكِرُ
سقَى عُهُودًا لهمُ بِالحِمى / دَمْعٌ لَهُ ذِكْرهُمُ نَاثرُ
لم تكن هجرة الحسن عن نقص في الفُتوَّة أو التعليم. فقبل أن يتخرج من مدرستنا الرائدة، المدرسة العليا متعددة التقنيات، كان الحسن خريج محظرة عريقة في المنطقة.
واصل الحسن انتقاله من صورة لأخرى، ولم يتوقع أن يواجه في يومه ذاك ما هو أكثر تشويشا عليه من تلك الصورة الجوية الجميلة. لكن وبينما هو كذلك لاحت صورة له هو نفسه، ومعه والدته مريم، كان ابن عمه المذكور قد التقطها لهما خلسة أياما قليلة قبل رحلة إلى أمريكا. كانت تلك الصورة مؤلمة للحسن، وربما لغيره.
في هذه الصورة تظهر والدة الحسن الجسيمة المصابة بداء المفاصل والضغط المزمن، وهي تتمشى خلف ابنها بصعوبة بالغة في رمال عين الطلح، وبجانبهما سِمسار شرِه يتحدث بصوت مرتف في أكثر من هاتف، وبرطانة هي أشد على مرافقته البدوية الشاعرة من فراق ابنها وفقدان قطعتها الأرضية.
قبل هذا بأكثر من عشر سنوات زارت مريم مدينة نواكشوط للمرة الأولى، من أجل مساعدة زوجها المتقاعد المتعفف في إرسال شقيق الحسن إلى الخارج لعلاج داء عضال سيفتك به فيما بعد. ولم تعد مريم إلى العاصمة قط إلا قبل سفر الحسن إلى الولايات المتحدة الأمريكية بأيام. وقد اتخذت في كل من الزيارتين قرارا ثوريا.
في الزيارة الأولى قررت مريم بيع آخر قطعان البقر الموروثة عن أبيها من أجل علاج المرحوم وشراء قطعة أرض صغيرة من المال المتبقي. وفي الثانية قررت التخلى عن هذا العقار المتواضع، لكنه رمزي ويتيم، مدفوعةً بأحلام جديدة لابنها وراء بحر الظلمات.
الأم الثانية للحسن، حنون هي الأخرى وسخية. إنها موريتانيا، أرض المولد والمنشأ والهوية. فإذا كان انتماء أسرة الحسن لموريتانيا الكبرى. أي تلك الأكثرية الساحقة من المواطنين الخارجين أبدًا عن النسق السلطوي والمالي ودوائر التأثير، إلا أنه كان من المحظوظين القلائل من جيله، ممن وفرت لهم الدولة تعليما مجانيا مقبولا في المستويات الابتدائية والإعدادية والثانوية. أما المستوى الجامعي فإنه كان كما قلنا ممتازا. هذا فضلا عما أحاطته به بلدته منذ مولده من علوم محظرية عالية وتربية أصيلة، وشمس وهواء وماء وسحاب وأمان وترفيه…
لذلك، لا ينحصر حلم الحسن اليوم في حياة لنفسه أكرم وأوسع، ولكن أيضا لأولئك الذين تركهم خلفه. وخاصة الوالدتين: مريم وموريتانيا، ولكن هيهات!
الأم الأولى لا تريد من الدنيا غير نجاح ابنها وصبره على مهمته المجهولة، وألا يعود إلى الحي إلا بعد الحصول على إقامة رسمية في أمريكا، والترقي من موظف غير شرعي صغير الدخل إلى موظف أمريكي ميسور الخال، وأن يستزيد من علوم تلك البلاد، فتكون بذلك كله فخورة بقرارها الثوري وجهودها الجبارة. لكن هل ستكون مريم على قيد الحياة يومها؟ وهل سيتمكن الحسن بقية عمره من تعويض ذرة مما بذلت في سبيله؟
أما الأم الثانية للحسن فإنها - على سخائها وحنانها - كانت - أطال الله بقاءها - مرهَقة ومرهِقة. يكاد رونقها يختفي ومعه كل كنوزها الثمينة، من موارد ومقدرات وعطف وأخلاق وأمن ونظام.
كلما نظر الحسن إلى الصور الكئيبة لعاصمتنا نواكشوط، رأى مزيجا من البؤس والقذارة والفوضى. لكنها، رغم ذلك، مدينة يفتقدها ويفتقد سكانها. وكلما رأى الحسن أو سمع خبرا عن الإنجازات العظيمة وتفرغ السلطة والنخبة للعبث والتوافه، بعد أن حلوا في وقت قياسي لمعظم مشاكل البلد، والتعهد بالقليل الباقي، اشمأز ويئس.
لكن قد تكون الإدارة السيئة المؤقتة هي التي أنهكت البلاد وأذلت العباد وقهرت الإرادة. لكن ذكاء المواطن ومرونة المجتمع تعطي الحسن القوة اللازمة للمضي قدما في مهمته والأمل في تعافي الوطن. ففي داخل كل موريتاني تكمن روح الصحراء غير آبهة بطول الطريق، ولا قابلة للانكسار. تلك الروح التي سمحت بالبقاء والإنتاج والسعادة لأولئك الأجداد الذين التقطت طائرة «درون DRONE» صورا لقبور طائفة منهم. كل ذلك تحت قسوة طبيعية متعددة الأبعاد لا ترحم.
لا تخلو الخلفية الطبيعية والحضارية لهذا النزوح الجماعي لشبابنا من مخاطر لا محيد عنها. ومناظر خلابة تتفاوت النفوس والعقول في حسن التقاطها والاعتبار بها. من نواكشوط إلى أمريكا، عبر إسطنبول، مرورا بعشرات الدول اللاتينية. الجبال العظيمة، والغابات الخضراء، والسهول الطويلة، والمدن الفوضوية، والأحياء المتفاوتة، والشعوب المختلفة، والأنظمة السياسية والإدارية المتباينة… قبل أن تشاهد ناطحات السحاب البراقة في نيويورك وتتمشى في أزقة بروكلين المظلمة.
كل يوم كان معركة وبحثا عن وظيفة ووسائل عيش كريم. وها هو الحسن يعمل الآن، مثل الكثير من أضرابه، بصفة غير قانونية، مع تاجر يمني، مقابل راتب زهيد ومقام معرض في أي وقت للإنهاء.
الأيام طويلة والوحدة صعبة، لكن الأمل راسخ. لقد صاحبت الحسن، منذ قفزته التاريخية في أرض العم سام، همة لا تقهر وعزيمة على الكفاح، من أجل البقاء أولا، وتحقيق الحلم ثانيا.
كلما فكر الحسن في الأرض التي تركها، أو في والده، معلم الأجيال الصامد المغمور، واستحضر أفاعيل الزمن والفاقة واليأس في جبهته، وتخليه عن كرامته ومبادئه، حين مد يده اضطرارا، ولأول مرة، إلى أحد أصدقائه الميسورين كي يستكمل لأم الحسن تكاليف رحلة الجدار.
كلما تذكر الحسن دموع والدته تنهار صامتة لحظة اتخاذ الأسرة قرارها السيادي الأول المتمثل في إخراج ابنها بعيدا عن أرض موريتانيا. كلما تذكر عزمها وقدرتها على تحمل جميع المصاعب، بدنية كانت أو عاطفية أو مالية، أدرك أن الأسرة الموريتانية قد تفرغت منذ وقت، وبوعي تام وإرادة حديدية، لتسيير الألم قبل الأمل. هنا تذكر الحسن لماذا يكافح!