بنشاب : أحببتُ قولة "جاء تشرين" منذ هَمْس الاصغاء الأول!،.. أحببتها تَقتحمُ صمتي وتنتشرُ في جنبات نفسي، أحببتها تعاود اعتراض سمعي بتردُّدات صوت "سدّوم" عند ساعة البدء من غرة أكتوبر، حين يُلقي تشرين بمراسيه البكر في وقتنا الأرقم،.. فقد تعوَّدتُ أن أحتضن معه اللحظة قبل بوادر الصَّباح،.. لكني اكتشفتُ أن أصدقائي الفسابكة أصيبوا بتخمة من عبارة «جاء تشرين» حين مُجَّت، وما ظننتُ يومًا أنْ تستكرهها الأسماع،.. ما عادَت موسيقى الكلمة تغريهم!،.. وأنا -مثل الحكومة- أتهيَّبهم حين تعتريهم الرغبة في دكِّ معاقل النطق ..، لذلك سأقول: «رحل شُتمبر، فغدكم سُكَّر»،.. ذِ بعد مافاتْ دَحستكم؟..
هذه العبارات مُجرَّدُ وجدانيات طقسية مُسالمة، نريدها أن تَحُولَ بين مُحْرق الحَشا أيلول "المبْسول" مع تأبُّط جناح تشرين، وأخذه رهينة..
أحيانًا نتقاسم بعض التفاصيل مع الأزمنة، تمامًا كما نتقاسمها مع الأمكنة، وننثر عليها من مخزون الذَّاكرة الجميل، كلّما عربد القبح من حولنا، فنتناسى تَغافلا كل الذي تعلَّمناه عن فنِّ النِّسيان.
أعرفُ أنَّ الموريتانيّ ملول بطبعه، يَملُّ الصَّلاة خلف نفس الإمام إنْ أمَّه خمس مرات متتالية في يومه،.. ويتمنى له العطب المُقعِد إنْ واصلَ الإمامة لليوم الثاني.. حتى ولو كان لا يرى إلا قفاه!
وأُدركُ أنَّ الوحي الرُّومانسي قد أقلع، وأن الفتوحات الكبرى للقلوب توقَّفَت، منذ انسلَّت روح القدِّيس نزار إلى بارئها، فخرَّت مذاهب الرِّقة ومِللها،.. لولا أن عضَّ الأخوان "إيده" والدرة السمراء "ديمي" على أحاسيسه بالنَّواجذ وقتًا،.. هذا الثلاثي أنفقَ علينا طربًا من سَعةٍ و أسرف!، أخذ من آذاننا أعمارًا نحتسبها قُربة للجمال،.. وإنْ كانَ عجزَ عن إرضاء النَّهم،.. لقد أكثر هؤلاء من التَّميز حتى عُرفوا به وعُرِّفوا.
يوم كنتُ في بداياتي مع النَّغم.. استهللتُ بحقبة استعفَى فيها وجداني من كلِّ طربٍ محلي، استشرقَ وتغرَّب في بحثٍ عن همسِ الوردِ، مُغاضبا صفير الرَّمل.. لكنه مع الزَّمن عادَ صاغرًا إلى الجذور وكبَّل نفسه بها وضيَّع مفتاح الكبْل عَمدًا.
في ليلة "استفَنوازية"، أقام شقيقي الأكبر عشاء أميريًّا لبعض من علية القوم على ساحل كابانو3، كانت خاتمته تسجيل شريط من ديمي وسدم،.. وما ان نطقا، حتى تحوَّل المُتمازحون فيه بالتراشق الوُدِّي البسَّام، إلى خُشب هامدة امتلأت بنشوة اللحظة، تُتقن -على ما يبدو- أدب الصَّمت في صَبر شجوٍ طويل الصَّبر، تئنُّ، تتنهَّد حين تَنَاوُب العملاقين على صبِّ الطرب، كأس أنغام، كأس غرام، زفراتٌ كناية عن أسقام، عمَّا لا يُقال.. حاولتُ مسايرةَ السّهرة على شفير الملل، لكن النُّعاس غلبني وطوَّح بيَّ الضَّجر عن عالمهم،.. أحسستُ بالغربة وبأنَّ سمعي فريسة لصِّياح لا يعني لي شيئا، فانسحبتُ لغرفة جانبية، .. لم أكن أملك أدوات الاصغاء لصنف أجهله،.. تبعتني زوجة أخي تستفسر، فقلتُ إنِّي أشعر بالاختناق ولستُ بارعة بتقبُّل الأشياء كيف ما تكون!،.. تحوَّل وجهها الوسيم لنقطة تعجُّب بحجم استغراب الخيبة، لقد جُنَّت المراهقة العنيدة؟،.. أجهزتُ على سمعي، وأدرتُ شريطا من ملحم بركات ليحجب عني "ازعاج" مدى صوت سدوم وديمي، دفنتُ بصري في جورج جرداق، توسَّدتُ غمامتي الوردية وسرتُ معها في عالمي الذي انسجم معه!..
انقضى زمنهم ذاك كلمع من شهاب، ثم جاء زمن إعادة اكتشافي اللذيذ لهم، في تحليق وقفتُ منه على عتبة أخرى من العمر بملء التوازن، وكان ذلك ضمن رحلة استكشاف كبرى لنفسي بوسائل مَحلية، فوجدتني أجرَّبُ معهم حُبًّا بطعم مُختلف، وصغتُ يومها لوجداني ميلادًا جديدًا..
لم أُسقِط من الصُّورة مَنْ سبقوهم إلى صُحبة مَسامعي، فباكورة التَّشكل عصيَّة على الكشط، لكني أزحتُ مؤقتا ما سواهم باتجاه الهوامش، إلى أن تمكنُّوا جميعهم من العيش المشترك بتناغم في أحاسيسي،.. تحرَّرتُ من سجنِ الانكفاء على النَّغم الأجنبي..
سيبقى لهذا الثلاثي الذهبي أجر الذَّاكرين بالوجدان،.. فقد صَرَفَنَا الى معاني انسانيتنا.
سنوات، ويرتقي سُلَّم الإرث القبَّاني مُجدِّدٌ رؤوم من شيعته الأقربين، هو القيصر كاظم الساهر، وأظنُّ وبعض الظنِّ جميل، أنَّه خليط من روائع متراصَّة، فيها من سحر الصَّوت ومخمليَّة اللحن وطغيان الحضور،.. ومن كبرياء يليق بالمرأة في شعر نزار...
هذا الكاظم، بكت أمامه زوجته وأم ابنيه -رحمها الله- ذات مرَّة بعد خلاف بينهما فطلقها بذريعة أنَّ رجلا يُبكي المرأة لا يستحقها،.. أسْكي!.. هذا فعلٌ شهمٌ تفيض منه العبرات،.. "يَغيرْ هيَّ إمَّلي ماهِ اتف ذيكْ"، و هذا ما يُسَمَّعْ لمُحتالي القلوب،... فيتخذون البكاء اللطيف ذريعة للطلاق الرَّاقي، تمثُّلاً لرومانسية من ظل الخراب..
أتخيَّله يُغنِّي لها من شعر نزار: «إنِّي خيرتُكِ فاختاري».. وقبل أن تختار نوع الموت الذي يليق بها، رمى عليها أرواقه كاملة وأيمانه ورحل. لقد أطنبَ في التَّلمذة على نزار، لكنه لم يفهم والو!..
كاظم والقبَّانيَّات خليط فخم، كاللوحة الكماليَّة الباذخة،.. ما زلتُ أعيد بهما تشكيل الصَّفاء، ولملمة ما تشرد من جمال وبهاء.. لبريق اللحن وسحر الحرف،...
نزار، أفقٌ مفتوح في مخيِّلة الجَمال، تَسْقطُ في حقِّه كل نُقطة بآخر السَّطر.. لكن،.. والله، ما كان وجداني ليتشرَّب شعره لحدِّ ذلك التَّشبع، لولا الوسيط سدوم وديمي والخليفة.. وقد عجزتُ عن تحصيل إحساسٍ مُماثل تجاه الكافيار الرَّاقي كاظم، رغم ولعي بصوته.. لأنَّ النكهة التي ابحثُ عنها لديه ظلّت ينقصها "التُّخاظْ اعل شِكوه" بطعم الأرض..
"تشريننا"، الصبح إن شاء الله، وحسب مَتَيُو لن يُغيِّر كثيرًا من عادته، انْهارات منْ أَلاَوَه حامْيينْ؟