في تأبين الحكيم باي بيخا.. / ذ : محمدُ ولد الشدو

سبت, 27/03/2021 - 18:09

بنشاب: كان في بلادنا ضريح للعظماء مثلما “البانتايون” (Le panthéon) في فرنسا، لانعقد إجماع الأمة، رغم ندرة انعقاده على صواب، على أن يكون من نزلائه الأجلاء ذلك الحكيم الكبير؛ إذ لا يختلف اثنان – مهما كان اختلاف مشاربهما، وبُعْدُ الشقة بينهما- على تميزه وبُعْدِ نظره ووطنيته وجوده وتفانيه في خدمة ما آمن به وخدمة الناس، وقبوله أيضا.

        محمد ولد السالك أسد ثائر خرج من واحات وجبال آدرار المعمدة بالنار والبارود والإباء التليد، والموجدة والحقد على الاستعمار والظلم والطغيان، والحالمة بالانعتاق والحرية والعدالة والمساواة!

        دخل معترك السياسة باكرا في صفوف الكادحين، وعرف السجون والاضطهاد والعسف والحرمان خلال سبع شداد.. ومع ذلك فقد ظل صامدا يمشي بثبات على الدرب الوطني، وكان سباقا في ميدان النضال، وشجاعا وذكيا ومرحا جدا.

        وما إن آتت سياسة الوحدة الوطنية أكلها وتصالح ونهض الوطن، ووُضِعت لبنات الاقتصاد الوطني الأولى: إنشاء العملة الوطنية (الأوقية) وتأميم صناعة الحديد والنحاس والبنوك، حتى دخل الرجل معترك بناء صرح الاقتصاد الوطني من أوسع أبوابه: البحر والصيد. فأنشأ مملكة فواكه البحر التي ظل يتربع على عرشها دون منازع!

        وفي معترك حياته كانت عيناه على البحر كله، والصيد كله، والوطن كله. أما فصيلته التي يؤويها فكانت الصيد التقليدي و مراغن ومجالنا الحيوي وعمقنا الاستراتيجي في مرج البحرين. وكان يدير ويدبر ويطبق أفكاره الخلاقة بحكمة وفطنة وشجاعة وانفتاح وتسامح ومرح منقطع النظير! ولديه آراء رائدة ونيرة وحكيمة في البحر والمجتمع والسياسة والاقتصاد:

        – البحر: هو أكبر هدية أهدتها السماء للأرض، ونعمة أنعم الله بها علينا. ويريد أعداؤنا وخصومنا، ويعملون بما أوتوا من قوة، ويجندون بعضنا (أولاد كيجه البيظاني) أن نظل بعيدا عنه، جاهلين به، ليخلو لهم وجهه وينفردوا بخيره العميم وكنوزه الباهرة. فإذا استطعنا صونه وحفظه ومعرفته والاستمساك به حَفِظَنا وصاننا وأغنانا وأحيانا. وإذا فرطنا فيه وضيعناه كان مصيرنا الضياع والخسران.

        – المجتمع: إن أكبر مشكلة يعاني منها المجتمع الموريتاني هي مشكلة إهمال التعليم؛ وهي مشكلة العالم الثالث. فالعالم يبحث عن طريق للنمو، والنمو لا يتم إلا بالتعليم؛ فهو العمود الفقري للحياة. وما أخَّر الموريتانيين ومنعهم من النمو هو أنهم لم يفتحوا جامعة إلا عام أول، أي بعد استقلالهم بنحو ستين سنة؛ فما كان ينبغي أن يكون قبليا جعلوه بعديا. وهذا هو سبب تأخرهم. إنهم لم يهتموا بالتعليم في الماضي ولا يهتمون به حتى الآن. وما داموا لا يهتمون بالتعليم ولم يجعلوه أولى أولوياتهم فلن يرجى لهم خير أبدا. وتليها مشكلة الابتعاد عن البحر؛ ففي بلادنا لا يوجد سكان شواطئ بسبب انعدام الماء في الشاطئ. وتمتاز شعوب الشواطئ بميزتين: لا يجوعون ولا يتعرضون للأوبئة. فإذا كانت الدولة تريد لموريتانيا التطور والقضاء على المجاعة فعليها أن توفر الماء الشروب على الشواطئ وتمد القرى والمدن من نواذيبو إلى نجاغو. ومن بين أجهزة الدولة ما يعمل عكس ذلك. فإذا كان الرئيس المختار – رحمه الله- قد حط بنا على الشاطئ خلافا لآراء كثيرة حول مكان العاصمة، فإن صاحب الإسكان مثلا يقسم الأرض في اتجاه وادي الناقة ليبعد الناس عن البحر! لوكان لي من الأمر شيء لبدأت مد القرى من وادي الشبكة حتى نجاغو. فلو كنا منذ الاستقلال، أو منذ عشرين سنة خلت على الأقل، قمنا بتوفير الماء ومد الطرق على شاطئ بحرنا وأسكنا الناس ومنحناهم الأرض وصار أطفالنا يولدون على الشواطئ ويلعبون مع الموج كما يلعبون مع العجول والجديان والخرفان في البادية، لكانت لدينا شعوب وأجيال تستطيع اليوم أن تمارس قرصنة الصيد في المياه الأمريكية بدل أن يقرصن الآخرون الصيد في مياه بحرنا. وهذا يحتاج إلى من يؤمن به ويتخذ له الوسائل الكفيلة بتحقيقه، لا من يتآمر مع الأوروبيين لإبعادنا عن البحر وتركه غنيمة سائغة لهم. وقد كان رحمه الله من أكبر المتحمسين لسياسة مد الموانئ من نواذيبو إلى انجاگو خلال “عشرية الفساد” ويرى في ذلك الإنجاز العظيم انتصارا لآرائه ولموريتانيا!

        – السياسة والاقتصاد: ومن درر وغرر آرائه في السياسة والاقتصاد رفضه القاطع للتغيير الشكلي، واشتراطه شرطا تعجيزيا لقبول الشراكة بين القطاعين العام والخاص. وقد تمثل ذلك في الحكايتين الواقعيتين التاليتين: 

* في عهد الرئيس محمد خونا ولد هيداله كان وزير الصيد محمد ولد سيدي علي رحمه الله صديقا للحكيم، فشكا له ظروف رجال الصيد المزرية، فبلغ الأمر الرئيس فأوفد الوزير إلى انواذيبو لرفع الظلم عن رجال الصيد وتلبية مطالبهم. ولسوء حظهم كان الحكيم غائبا يوم قدوم الوزير. ولما سأل الوزير رجال الصيد أجمعوا على أن مشكلتهم الرئيسية هي ظلم وفساد جمارك المدينة. وما إن عاد وأخبر الرئيس حتى أمر بتحويل جميع رجال جمارك انواذيبو. وقضي الأمر. وجاء الحكيم فسأل زملاءه عن زيارة الوزير، فأخبروه وهم مزهوون بما حققوا من مكاسب، فانهال عليهم باللوم وتسفيه الرأي وتبخيس المسعى، فسُقِط في أيديهم وأخذوا يستوضحون منه السبب، فقال: أنتم حمقى.. لقد أجليتم أولئك الذين اغتنوا من عرقنا واقتنوا دورا وأثاثا وسيارات وصارت لديهم تلفزات وفيديوهات وحسابات متخمة، وجئتم برهط ما يزال تحت خط الفقر سوف يأكلنا أكلا لَمًّا، وسنبدأ تجهيزه وإغناءه من الصفر. وكان الأمر على ما وصف.

* وفي نفس العهد أيضا اقترح صديقه وزير الصيد آنف الذكر – رحمهما الله- إنشاء شركة صيد مشتركة يكون رأس مالها بالتناصف بين القطاعين العام والخاص، فكاد رجال الأعمال أن يوافقوا على الاقتراح، لولا أن الحكيم اشترط شرطا صعب المنال هو اختلاف ألوان الأسهم؛ كأن يكون لون الأسهم العمومية أخضر، ولون الأسهم الخصوصية أحمر، فيسهل بذلك على المسيرين التمييز بين أسهم الدولة وأسهم القطاع الخاص. فإذا أكلوا حسب عادتهم أسهم المال العام السائب المستباح ذات اللون الأخضر، بالصحة والعافية، تجنبوا أكل أسهم المال الخاص ذات اللون الأحمر؛ خاصة أن أصحابها سيقفون بالمرصاد لمن تسول له نفسه أكلها. وبسبب هذا الشرط القاسي لم تتأسس الشركة أبدا. (ينظر كتاب أزمة الحكم في موريتانيا، ص 28 – 29).

* * *

لقد رحل الحكيم باي بيخا – مع الأسف الكثير والأسى- عن دنيانا الفانية، وبرحيله وفقده أصبح البحر والصيد التقليدي والصيادون البسطاء وفواكه البحر أيتاما. وصارت الحياة أقل ملحا وبهارات في موريتانيا؛ خاصة أنها هذه الأيام بطعم و”نكهة” فتك وإكراهات كورونا والبطالة وارتفاع الأسعار وضعف القدرة الشرائية واتساع هامش السيبة والفوضى.. والله المستعان!

ومع ذلك، يظل تأبين الحكيم والوفاء له منوطا بالثبات على نهجه، والعمل على تجسيد أفكاره الرائدة، وعلى حماية الوطن ومصالحه من العابثين والمفسدين والمستعمرين القدامى والجدد.

فرحم الله الحكيم باي بيخه وعفا عنه وأسكنه فسيح جناته، وبارك في خلفه وأهل بيته، وألهمهم – هم وسائر أصدقائه ومحبيه- الصبر والسلوان.

وإنا لله وإنا إليه راجعون!

ذ. محمدٌ ولد الشدو