بنشاب : يعاني قطاع الصيد في موريتانيا جملة من المشاكل البنيوية المزمنة التي تحتاج إلى العمل على صياغة وتنفيذ استراتيجية شاملة بمشاركة مختلف الفاعلين في القطاع، ما يمكنه من تجاوز الوضعية الراهنة السيئة التي يرزح تحت وطأتها، والخروج من عنق الزجاجة الذي يقبع داخله.
وقبل الدخول في التفاصيل، فإننا هنا لسنا في وارد الحديث عن خصوصية الشواطئ الموريتانية التي تعد جزءًا من القوس الشاطئي الأغنى في العالم من حيث الكم والكيف؛ ولسنا أيضا في حاجة للحديث عن الاستنزاف المهول الذي تعرضت له الثروة السمكية على مدى السنوات الماضية.
وقد بلغ عدد السفن الأجنبية العاملة في مجال الصيد في المياه الإقليمية الموريتانية، عام 2016 قرابة 400 سفينة موزّعة بين بلدان شرق آسيا والاتحاد الأوروبي، وتوضح بعض الإحصائيات التباين الكبير بين مساهمة الأساطيل الأجنبية والأسطول الوطني في إيرادات ميزانية الدولة حيث تبلغ الأولى 66% فيما لا تتعدى الثانية نسبة 6%؛ ما يعكس سيطرة الأساطيل الأجنبية على قطاع الصيد على حساب الصيادين المحليين الذين يعانون نقص الإمكانات ومنافسة السفن الأجنبية. وتشير تقديرات رسمية إلى أن حوالي 95% من الأسماك الموريتانية تُصدّر إلى الخارج فيما لا توجّه إلى الأسواق المحلية إلا كميات قليلة من الأنواع السمكية الرخيصة.
بولي هوندونغ .. الآفة البيولوجية
تستخدم شركة بولي هوندونغ الصينية آليات تكنولوجية حديثة ومتطورة للغاية تمكنها مما يمكن تسميته ب”شفط” الثروة السمكية في البلاد؛ حيث أجريت تعديلات على القوانين المنظمة للقطاع لتتلاءم مع متطلبات الضيف الجديد، وبشكل متزامن مع قدومه؛ فتم إلغاء قانون ينص على منع استنزاف الثروة السمكية عن طريق ربط الشباك العملاقة بين باخرتي صيد صناعي، وذلك لإرضاء الصينيين الذين تحصلوا في فترات قليلة على ما لم يكونوا يحلمون به على مدى عقود.
إن هذا الاتفاق غير المنصف والذي أضرَّ مصالح الدولة الموريتانية كثيرا، قوبل برفض واسع ليس من قبل المعارضة في البرلمان الموريتاني الذي شهد جلسات ساخنة لنقاش المشروع فحسْب؛ بل رفضه جل المستثمرين الوطنيين في الحقل، واعتراضاتهم سُجلت في وقتها على شكل مقالات ومقابلات مع وسائل إعلام محلية ودولية موثقة.
ورغم الدعاية الضخمة التي قوبل بها الموضوع من طرف الأجهزة الرسمية، فإن الشركة لم تحقق نصف التزاماتها في ميدان التشغيل الذي وعدت به، حيث لم توفر حتى الآن ألف فرصة عمل للموريتانيين من الألفين التي وعدت بها، رغم طول مدة الامتياز التي تستمر على مدى ربع قرن، والتي لن تحصل موريتانيا من خلالها على شيء سوى بعض المنشآت المتواضعة التي ربما تتهالك قبل انتهاء مدة الاتفاقية.
وهناك اتفاقيات أخرى مع شركات صينية مثل شركة “سين رايس” وأخريات عليها أكثر من علامة استفهام.
الشركات التركية.. المنافس الشرس للشركات الوطنية..
إضافة لما سبق، تشن أساطيل الصيد التركية حربا لا هوادة فيها لمنافسة الأساطيل الوطنية فهي تنافسها بشكل شرس، ولا تحترم الكميات المسموح لها بصيدها.. وتنشط السفن التركية في مجال صيد الأسماك بالسواحل الموريتانية، ضمن اتفاقية بحرية تقتصر على الصيد السطحي، حيث يرى المختصون أن السفن التركية لم تلتزم ببنودها بانتهاجها معايير غير مشروعة لممارسة هذا النشاط خارج بنود هذه الاتفاقية، الشيء الذي يهدد مستقبل هذه الثروة المتجددة، بل ويهدد حاضرها قبل ذلك.
وكان ناشطون إعلاميون في العاصمة الاقتصادية نواذيبو، التي تمثل مركز الثروة السمكية بالبلاد، قد تداولوا مقاطع فيديوهات تظهر ممارسات لسفن تركية مضرة بالبيئة السمكية في المياه الموريتانية، معتبرين أنها تمثل “مذبحة” ضد أهم أصناف الأسماك التي تعرف بـ”الكوربين”، ورأى هؤلاء الناشطون أن الممارسات “البشعة”، للسفن التركية العملاقة، تشكل أكبر تهديد للثروة السمكية الموريتانية – بعد بولي هوندونغ – من خلال استخدام أساليب ممنوعة بحكم النظم الدولية الخاصة بالتوازن الحيوي للبحار والمحيطات..
وكان عدد من الفاعلين في المجال بدأوا في دق ناقوس الخطر، مستندين في ذلك إلى اعتماد السفن التركية على منظومة من المعدات الخاصة بصيد الأسماك، تقوم على شباك قادرة على جرف جميع الأحياء البحرية، بما فيها الأسماك النادرة الممنوع صيدها؛ هذه الممارسات التي تهدد بانقراض أهم أنواع الأسماك، وتعيق تكاثرها البيولوجي، ما يؤدي إلى ندرتها ثم إلى انقراضها، الشيء الذي تجلى فيما تشهده الأسواق المحلية من ندرة في الأسماك، وارتفاع أسعارها، خصوصا الأنواع التي يكثر عليها الطلب من جانب فئات المواطنين الأقل دخلاً.
وكل هذه أمور تستلزم من السلطات الحالية مراجعة كل هذه الاتفاقيات فورا، حتى تنقذ ما يمكن تداركه من هذه الثروة المتجددة التي تعتبر حتى الآن ورغم كل ثروات البلاد من الحديد والذهب والزراعة، أهم مورد للاقتصاد الموريتاني.
الصيد الصناعي المحلي.. الحل الواعد
يمتد الشاطئ الموريتاني من شبه “جزيرة الرأس الأبيض” إلى دلتا نهر السنغال؛ على طول أكثر من سبعمائة كيلومتر. وتلتقي في المياه البحرية الموريتانية التيارات البحرية التي تتحرك عبر الأعماق ولاسيما تيار الكناري البارد وتيار الإكوادور الساخن؛ حيث يحمل هذان التياران العوالق البحرية والنباتية ما يشكل بيئة مواتية لتكاثر الأسماك وجذب أنواع سمكية مهاجرة، وتبلغ مساحة المنطقة الاقتصادية الخاصة بالصيد 230 ألف كيلومتر مربع، إضافة لوجود جرف قاري بمساحة 39.000 كلم مربع.
كلّ هذه العوامل هيأت الشواطئ الموريتانية لتتصدّر مرتبة متقدمة بين الشواطئ الأكثر ثراء بالأسماك والأحياء البحرية حول العالم، إذ يعيش في مياهها حوالي 170 صنفاً من الأسماك والكائنات البحرية القابلة للتسويق، لعل أهمها: الأخطبوط، الحبار، الجمبري، سمك موسى، سمك الترس، تونة البحر، السردين، سمك البوري الأصفر والأسود، جراد البحر، الحلزون. إلى جانب أنواع نادرة من الدلافين وشيخ البحر والعقارب البحرية.
وكل هذه المقدرات يمكن لموريتانيا من خلالها تحقيق الكثير في ميدان الصيد؛ فلو أن القائمين على الشأن العام اعتمدوا خيار تصبير وتعبئة الأسماك، وتشجيع المستثمر المحلي لمكنتنا ثروتنا المتجددة من الصيد السطحي من إنتاج مليون طن سنويا، وهو ما يكفي لخلق نصف مليون (500 ألف) فرصة عمل، وهو ما يعني ميلاد استثمارات موريتانية حقيقية في ميدان الصيد الصناعي، بل ولأصبحت موريتانيا تستورد العمالة الوافدة.
إن من واجب السلطات العليا في الدولة الاهتمام بقطاع الصيد الصناعي، فعن طريقه يمكن خلق نهضة تصنيعية تعود بالفائدة الحقيقية على البلد.
موانئ الصيد.. طموح كبير وتعثر وتخبط
يعد ميناء تانيت أكبر ميناء للصيد التقليدي في البلاد إذ تبلغ مساحته 8500 متر مربع، ويقع هذا الميناء على بعد 60 كيلومتر شمال العاصمة نواكشوط، وقد كلف خزينة الدولة 27 مليار أوقية قديمة، وهو ميناء يتسع لرسو حوالي 400 زورق وقارب صغير ومتوسط الحجم، كما أنه يضم رصيفين للتفريغ والتحميل بطول 100 متر للرصيف الواحد، وغرف للتبريد والتخزين وشبكات للمياه والصرف الصحي، ويضم سوقا لبيع الأسماك بسعة 1740 متر مربع، ومحطة لتوليد الكهرباء بطاقة 3000 كيلوات، وأخرى لتحلية المياه، يصل إنتاجها اليومي إلى 1000 متر مكعب، إضافة إلى جميع الخدمات الأساسية لمزاولة الأنشطة ذات الصلة بالصيد التقليدي.
ولكن هذا الميناء لا يصلح لرسو الزوارق المصنوعة محليا لوجود الصخور في الشاطئ، وهو ما يجعل ميدان الاستفادة منه محصورا على الزوارق الخشبية المصنوعة خارجيا. والقطع الأرضية التابعة للميناء منحت لشخصيات نافذة ولرجال أعمال لا وجود لهم في الميدان، ولا ينتمون لحقل الصيد التقليدي؛ وهو ما دفعهم إلى إيجارها لمن هم أحق بالمنح.
وفي هذا الصدد ولحل هذا الإشكال يجب القيام بإحصاء شامل للمواطنين العاملين في ميدان الصيد التقليدي، وتشيكل قاعدة معلومات يمتلكها القطاع الوصي؛ وتتاح لمختلف الفاعلين، ومنحهم الأولوية في أي توزيع مستقبلي للقطع الأرضية في المنشآت المينائية بدلا من الغرباء الذين لا علاقة لهم بالصيد.
كما يجب إلغاء منح القطع الأرضية (المينائية) لغير العاملين في القطاع؛ وإعادة توزيعها على المنتجين الحقيقيين بمشاركة وزارة الصيد والاقتصاد البحري والإدارة الإقليمية والجهات الأمنية من خفر سواحل ودرك وشرطة ؛ فحين تشرف لجنة مشتركة من مختلف القطاعات تُمثل فيها القطاعات الحكومية المعنية، ويُمثل فيها المستهدفون من المشروع، فإن المردودية ستكون أكبر؛ أما حين تكون المسؤولية من جانب واحد فإن الشفافية والعدالة ستكون مهددة؛ وهو ما يلزمنا تنفيذه على مستوى ميناء انجاكو الذي أصبح في طور التدشين، ونفس الشيء مع ميناء الكلم 28 جنوب نواكشوط؛ حيث يجب أن لا نكرر نفس الأخطاء التي حصلت في ميناء تانيت.
وفي هذا الإطار وعلى وجه الخصوص يجب أن لا تمنح قطعهما الأرضية للشخصيات النافذة ولا رجال أعمال لا يستثمرون في القطاع، وأن تكون هناك فترة مفروضة للاستثمار، وأن تلزم السلطات أصحاب القطع الأرضية بدفع الرسوم للخزينة العامة؛ حتى يكون ذلك عاملا محفزا للتسريع في الاستثمار (15 يوما) على أطول أجل؛ وذلك لمنع المتطفلين وأصحاب المشاريع غير الجادة.
وحين تكون هذه السياسة متبعة في كل الموانئ فلن يأخذ الأرض غير من هو على استعداد للعمل والاستثمار فيها بشكل مباشر، وسينعكس ذلك على المنتوج الوطني وعلى حياة المواطنين وعلى البنية التحتية وعلى الخزينة العامة.
كما يجب أن تنشأ لجان مشتركة يُمثل فيها مختلف الفاعلين للإشراف على تسيير هذه المنشآت المينائية بالغة الأهمية، والتي لو استغلت أحسن استغلال فستغير واقع المواطنين، وتساهم في مد الاقتصاد الوطني برافعة جديدة، وهذه اللجنة ضرورية جدا لكي يقوم كل ميناء بدوره، وحتى لا تذهب الأموال الطائلة التي استثمرت في إنشاء هذه الموانئ أدراج الرياح.
مصانع موكا.. تهديد للأمن الغذائي والصحة والبيئة
أصدرت منظمة السلام الأخضر “غرينبيس” قبل عشرة أشهر من الآن، تقريراً يتحدث عن مصانع دقيق السمك في موريتانيا، والتأثير السيء لهذه المصانع على البيئة وخاصة المحيطات.
وتعرف هذه المصانع في موريتانيا باسم “شركات موكا”، وتتمركز بشكل أساسي في العاصمة الاقتصادية نواذيبو، وتثير انتقادات واسعة في أوساط السكان الذين يتهمونها بتلويث الهواء والمحيط.
وسطرت المنظمة المختصة في الدفاع عن البيئة، والمحيطات بشكل خاص، عددا من الصفحات للحديث عن الصيد في موريتانيا، ويوضح تقريرها كيف أن صناعة دقيق وزيت السمك، تطورت بسرعة في موريتانيا خلال العقد الماضي، حيث ارتفع عدد مصانع إنتاج دقيق وزيت السمك من 1 في 2005 إلى 6 في عام 2011، ثم إلى 11 في عام 2012 و39 في عام 2015، منها 29 تعمل بقدرة معالجة تصل 1 مليون طن، و11 مصنعا آخر حصل على إذن ولا يزال قيد الإنشاء.
وفي تقرير “منظمة السلام الأخضر” أن موريتانيا أقل اعتمادا على الأسماك مقارنة بالبلدان الأخرى في المنطقة بالنسبة للأمن الغذائي وسوق العمل، مضيفا أن قطاع الصيد يظل مهما جدا بالنسبة لاقتصاد البلد.
وبحسب التقرير فإن الصيد يوفر حوالي 55000 وظيفة في موريتانيا، 80% منها في الصيد التقليدي، ويتراوح معدل الاستهلاك السنوي الفردي للأسماك بين 8 إلى 10 كلغ، وقد يصل إلى 20 كلغ للفرد، بالنسبة للذين يعيشون في المناطق الساحلية الحضرية. وتمثل أسماك السطح الصغيرة نسبة 90% من السمك المصطاد.
واعتبرت الدراسة أنه وحتى وقت قريب، كانت احتياطات الأسماك البحرية الصغيرة تعتبر أساسية لدى الحكومة كمواد خام لاستغلالها، وليست كمصدر أساسي للغذاء، وعمالة للسكان المحليين، وتمنح منذ فترة طويلة، المخزونات السمكية الصغيرة، والتي يتم تقاسمها مع البلدان المجاورة، لسفن الصيد الكبيرة التابعة لعدد من الدول بعضها أعضاء في الاتحاد الأوروبي، وفق الدراسة، ومن أبرز هذه البلدان هولندا وألمانيا، وبولندا، وليتوانيا، والمملكة المتحدة، وفرنسا، وروسيا، وجورجيا، وتركيا، والصين، وكذا السفن التي ترفع علم سانت فنسنت وجزر غرينادين، وبليز، وكذلك بعض السفن التي ترفع العلم الموريتاني.
وذكر التقرير، أنه ووفقا لمنظمة الأغذية والزراعة “الفاو”، فقد بلغ إجمالي الصيد المصطاد في المنطقة الاقتصادية الخالصة بموريتانيا 794000 طن في عام 2014، قبل أن ينخفض إلى 614000 طن في عام 2015، ويرتفع في عام 2016 إلى 848000 طن. وخلال الفترة من يناير إلى نوفمبر 2018، أظهرت الأرقام الرسمية أن الكميات المصطادة 1148287 طنا، منها 1090380 طنا من الأنواع البحرية.
لقد تطورت، وفقا للدراسة، معالجة أسماك السطح الصغيرة، وتحويلها إلى دقيق، وزيت، بشكل كبير في موريتانيا خلال السنوات الأخيرة، ففي عام 2015، استُخدم أكثر من 300000 طن من أسماك السطح الصغيرة في صناعة المساحيق السمكية، وفي عام 2017، تشير تقديرات الدراسة إلى أن ما يقرب 550000 طن من الأسماك البحرية الصغيرة استخدمت لتغذية وحدات المعالجة.
وأوصت “منظمة السلام الأخضر” في تقريرها إلى ضرورة وضع إطار تنظيمي لتجنب هذه الممارسات الضارة على البيئة والصحة العامة وعلى المصادر السمكية.. للبلاد.
وتشير التقديرات إلى أن قطاع صناعة دقيق وزيت السمك يوفر قيمة مضافة منخفضة نسبيا تصل 30% وقليلا من وظائف العمل الموسمية، وغير الماهرة .. وأوصى التقرير بوضع حد لتطور هذه المصانع بل وإغلاق أغلبها لما تشكله من تهديد على الأمن الغذائي وللبيئة البحرية وللصحة العامة، والبدء في تحويل قطاع الأسماك السطحية الصغير من أجل تخصيصه للاستهلاك البشري المباشر.
وبالتالي فإنه يجب على قطاع البيئة أن يحرص على فرض تدابير البيئة في كل المصانع، وهي التدابير التي تمنع انتشار الروائح، والأدخنة، والمواد الضارة بالبيئة، ويجب إغلاق أي مصنع لا تتوفر فيه المعايير البيئية العلمية (العالمية)، لأن الصحة مقدمة على المردود الاقتصادي مهما بلغ، وعلى السلطات التخلص التدريجي من إنتاج تلك المصانع، عن طريق رفع ضرائب التصدير وتعزيز الضوابط.
الشركة الموريتانية لتسويق الأسماك.. العائق البيروقراطي الوحيد من نوعه في المنطقة
أنشئت الشركة الموريتانية لتسويق الأسماك في منتصف سنة 1984 ومنذ ذلك التاريخ وهي المصدر الوحيد للأسماك المجمدة في البلاد وهي شركة اقتصاد مختلط، تمتلك الدولة 70% من أسهمها، بينما يمتلك القطاع الخاص 30% منها، ومقرها الرئيسي في نواذيبو ولها فرعان أحدهما في نواكشوط والآخر في لاس بالماس بإسبانيا.
وتـُـسوّق هذه الشركة حدود خمسين ألف طن من الأسماك المجمدة سنويا، أي ما يمثل إنتاج مائة وعشر سفن جر في أعالي البحر و20 مصنعا على اليابسة.
وتتلخص مهام هذه الشركة في وضع نظام متابعة الإنتاج الوطني؛ فهي تتوسط لتسويق الأسماك بين المصدر والمستورد وتقوم بوضع أسعار محددة للأسماك؛ في أغلب الأحيان لا تتماشى مع معادلة العرض والطلب.
ورغم أن هذه المهمة كانت ملحة في الفترة التي تم فيها إنشاء الشركة، إلا أنه مع تغير نظام السوق والتطور النسبي الذي شهدته البلاد في العقود الثلاثة الأخيرة، أصبحت هذه الشركة تشكل وصمة في جبين النسخة المحلية من النظام الليبرالي، وتحولت من رافعة للاقتصاد الوطني ودواسة تسارع لمؤشر نموه إلى معيق ودواسة كبح، حيث أصبحت نموذجا فريدا من نوعه في المنطقة بل وفي العالم بشكل عام حتى دول الاتحاد السوفيتي السابقة لم تعد تطبق هذا النوع من النّظم؛ وأصبح الشغل الشاغل لهذه الشركة هو اقتطاع نسبتها من التصدير التي قد تصل إلى 2 في المئة، والمستثمر الداخل إلى السوق الموريتانية يتفاجأ برزمة القوانين المقيدة لعمله كمستثمر، كما أنه يعي جيدا حجم المغامرة بدخوله لسوق غامض، نتيجة البيروقراطية والإهمال الذي تمارسه الشركة الوطنية لتسويق الأسماك.
إن الطريقة التي تعمل بها هذه الشركة فريدة من نوعها في العالم ، رغم رواتب عمالها الضخمة، ومع الإقبال الشديد على الصيد البحري من طرف العالم، تبقى الشركة نكتة عابرة للمحيطات..
إن القائمين على الشركة الموريتانية لتسويق المنتجات السمكية هم موظفون إداريون لا يملك أغلبهم أي خبرة في القطاع، وهو ما جعل المستثمرين يعزفون عن دخول القطاع. إن وجود هذه الشركة يناقض مبدأ ليبرالية السوق، وهي ملاحظة سبق أن أشار لها البنك الدولي.. لقد كانت ضرورية ومفيدة في بداية وجودها، ولكنها الآن أصبحت متجاوزة.
المندوبية المكلفة برقابة الصيد والتفتيش البحري.. وجه مشرق في ظلام دامس
أنشئت المندوبية المكلفة برقابة الصيد والتفتيش البحري بموجب المقرر رقم 125-94 والذي يقول في مادته رقم 11: “المندوبية مكلفة بمصالح التفتيش والإحصاءات ورقابة التفريغ في الموانئ”.
ولكن شكّل ضعف هذه المندوبية في بداية نشأتها، وضعف إمكانات الدولة وتذبذب الأوضاع السياسية والاقتصادية فرصة للأساطيل الأجنبية لتنهب الثروة السمكية. ولعلّ أبرز الأمثلة على عمليات الاستنزاف، الاتفاق الموقع بين موريتانيا والاتحاد الأوروبي عام 1996 الذي سمحت بموجبه الحكومة لأربعين باخرة أوروبية بصيد رأسيات الأرجل في المجال البحري الموريتاني. إلا أن فساد الرقابة البحرية وضعف الإدارة المحلية أدى إلى استنزاف الثروة السمكية الموريتانية وفقدان 80% من الكتلة الحيّة للأخطبوط خلال هذه الفترة. وتواصلت عمليات الاستنزاف مع دخول الآسيويين إلى السوق ما ضاعف حجم الأضرار المترتبة على خرق قوانين الصيد. ولكن احتدام المنافسة بين الأوروبيين والآسيويين أنعش الاقتصاد البحري مجدداً.
وكانت سنة 2005 سنة تحول كبير في قطاع الصيد ؛ فقد كان لتعيين قيادة جديدة للمندوبية تملك إحساسا وطنيا، وكان للامتياز المادي الذى أقره المجلس العسكري للعدالة والديمقراطية لصالح المندوبية، الأثر البالغ في تسيير أمور المندوبية، وضبط قطاع بالغ الصعوبة، فقد باتت كل الأجهزة التابعة لها مسلطة على المخالفين لقواعد الصيد والمنتهكين للسيادة الوطنية أو المستنزفين للثروة البحرية، مع علاوة تبلغ 48% من كل مخالفة تم تحصيلها، بعدما كانت الرشوة أبرز خطر يتهدد القطاع والعاملين فيه خلال العقد الأول من عمل هذه المندوبية التي تحولت اليوم إلى خفر للسواحل بإمكانيات كبيرة وتجهيز متطور، بعدما تم ضبط القطاع لأول مرة، وباتت المياه الموريتانية مؤمنة من “أنجاكو” إلى “لكويره” بقوة الرجال وأفواه البنادق، ناهيك عن تسيير الثروة البحرية وفق الخطط السنوية للقطاع، بعدما كانت الرخص الممنوحة للفاعلين فيه مجرد واجهة للنهب والتبذير. بل إنها اعتمدت كمفاوض عن الحكومة مع الأوربيين، وهو القرار الذي أحدث نقلة نوعية في مجال الصيد منذ 2005، حين تغيرت العقلية السياسية التي تدار بها الدولة، والروح الوطنية التي تم التعاطي بها مع ملف الصيد بعد أن ظل لعقود مجرد ثروة منهوبة من طرف الأجانب، ويستفيد من فتاتها بعض الخواص.
لقد كان تمرير اتفاقية الصيد سنة 2006 والظروف التي عاشها المفاوض الأوربي قبل توقيعها، انتصارا كبيرا للدولة الموريتانية، كما أن البروتوكول الملحق بالاتفاقية تم تجديده 2008 و2012 و2014 ، ثم بدأ التفاوض من أجل تجديده لفترة تمتد إلى أربع سنوات من 2015 إلى 2019، ولقد كانت مرحلة 2015 بالغة التعقيد بحكم التوتر مع الأوربيين ، مع رفض كل المطالب التي تقدم بها الأوربيون خلال تلك الفترة بشأن العديد من النقاط المصنفة رسميا ضمن دائرة الثوابت الوطنية، وهو التفاوض الذى كاد يعصف بالاتفاقية المشتركة مع الأوربيين؛ حيث دفع الأوربيون في البداية بوفد يقوده أحد أباطرة التفاوض في تسعينيات القرن المنصرم “سيزاري روبيرت” باعتباره ممثلا ثقة لدى أصحاب السفن الأوربية، بحكم تجربته الطويلة أيام الفوضى وغياب الدولة الموريتانية، وفى النهاية أرغم المفاوضون الموريتانيون الأوربيين على تغيير وفدهم المفاوض، وأدرك الاتحاد الأوربي بالفعل أن هناك شيئا تغير في موريتانيا، وغيروا الوفد ورئيسه الذي يعود لحقبة مضت من تاريخ الاتفاقيات المذلة مع الأوربيين.
لقد مكنت المندوبية من تحقيق عدة نقاط إيجابية لصالح الثروة السمكية بموريتانيا والمهتمين بها، حيث تحول الأمر من بيع رخص للصيد إلى بيع الكميات المصطادة، مع إلزامية التفريغ في الموانئ الموريتانية بعدما ظلوا يغادرون باتجاه دولهم دون مراقبة أو تفتيش، مع إلزامهم باكتتاب 60% من العمالة الموجودة على ظهر السفن من الموريتانيين، ومنعهم من صيد “الرخويات” وتحديد مسافة يحرم الاقتراب منها، لتظل مخصصة للعاملين في الصيد التقليدي بموريتانيا.
حافظت المندوبية على المخزون الوطني من الثروة المتجددة (يشهد بذلك القريب والبعيد)، فقبل دخولها على الخط كان السمك الموريتاني يباع في الأسواق الدولية بأرخص من أسعاره في السوق الوطنية، وكان التنافس بين الأساطيل الوطنية ونظيراتها الأجنبية غير متوازن وغير مشروع، حيث تخضع الأساطيل الوطنية لحزمة كبيرة من القيود والضرائب والجبايات والتكاليف الأخرى التي تثقل كاهل المستثمر الموريتاني، في حين كانت الأساطيل الأجنبية تعامل معاملة تفضيلية وتعفى من كثير من هذه الشروط والتكاليف؛ وهو خلاف الاتفاقيات الدولية . أضف إلى هذه المنافسة غير المتكافئة وغير المشروعة إذ أن الاساطيل الأجنبية كانت تنهب ثروتنا وتفرغ حمولتها في الموانئ الأجنبية؛ وهو ما يعني أن الثروة الموريتانية كانت تستنزف مجانا وبلا مقابل، فقامت المندوبية بتحصيل مبالغ لا يستهان بها للخزينة العامة مع نسبة للتحفيز، ولعل أهم منجز قامت به المندوبية في إطار المحافظة على الثروة وتحصيل الأموال للخزينة العامة؛ هو أنه كان يتم استنزاف كميات هائلة من سمك الأخطبوط التي يعتبر أثمن نوع من الأسماك الموريتانية من طرف الأساطيل الأجنبية، غير أنه نتيجة مفاوضات فرضتها وأشرفت عليها المندوبية تم الاتفاق مع الشركاء الأجانب على ترك 70% منها للصيد التقليدي الموريتاني، كما أشرفت المندوبية على تأميم 60 قارب صيد أجنبي نتيجة مخالفات قام بها أصحابها؛ وانتقلت ملكيتها لموريتانيين، مما ساهم في خلق فرص عمل حقيقية ليد عاملة موريتانية، كما جلبت المندوبية خدمة المنتجات البترولية التي أصبحت تتنافس عليها مؤسسات دولية كبرى لتزويد السفن، وتضخ أموالا طائلة في الصندوق الوطني لمحروقات .
ورغم دور المندوبية المكلفة برقابة الصيد والتفتيش البحري البارز في المحافظة على الثروة السمكية الموريتانية، ونجاحها في ضخ مبالغ طائلة للخزينة العامة نتيجة الرسوم والإتاوات المقننة على أساطيل الصيد الأجنبية المخالفة؛ فإن مشاكل كبيرة ما زالت تعصف بالقطاع تحتاج لعملية ضبط حقيقة كتلك التي حصلت على مستوى هذه المندوبية.
عالي محمد ولد أبنو / إعلامي وحقوقي .