مختبر الشرطة في زمن تناثر الأقوال ...

خميس, 11/12/2025 - 14:55

بنشاب : في زمنٍ تَتناثر فيه الأقوال كما تتناثر الرياحُ في الفلوات، ويغدو فيه الحقُّ كجمرٍ تحت الرماد، برزت قضيةٌ ليست من قبيل الأحداث اليومية، ولا من جنس الوقائع العابرة، بل هي نقطةٌ انشقَّ فيها الخطابُ ليمرّ منه ضوءٌ لا يرحم.

قضيةُ المختبر الجنائي التي ظنّ القومُ أنها ستظلُّ محبوسةً في خزائن الترتيبات، خرجت فجأةً من مكامنها، تحمل بين يديها وثائق ناطقة، وأرقامًا صادعة، وأسماءً لا تتخفى مهما أُسدلت السّتور.

وفي قلب هذه الحركة، وقف السيناتور السابق محمد ولد غده، رئيسُ منظمة الشفافية الشاملة، حاملاً بين يديه ما ندر أن يحمل أحدٌ مثله:
وثائقٌ أصلية، كشوف حسابات، شهادات مكتوبة، ومعطياتٌ تضيء كل موضعٍ أراد البعضُ له أن يبقى في الظلّ.

أولًا: بزوغ الوثيقة من غياهب الصمت

فقد أفاد الرجلُ أمام شرطة الجرائم الاقتصادية والمالية بما لا يترك للظنون منفذًا؛ إذ سلّم بين يدي المحققين أوراقًا مصدّقة، لا من نوع ما يُصاغ في العجل، بل من فصيلة الوثائق التي إذا قُرئت انبجس من بين سطورها سؤالٌ أكبر من الحبر الذي كُتبت به.

كشوف حساباتٍ تشير إلى عمولاتٍ تلقّاها وسطاء موريتانيون من شركتين أجنبيتين اشتغلتا في مراحل التعاقد والتنفيذ، وهما:

Genomed ومديرها حسين أوغلو،

Omega ومديرها سليمان كوجيت.

هذه الوثائق ـ بما فيها من أرقامٍ وتحويلات ـ ليست مما يترك مجالًا للتأويل؛ فهي شهادةٌ لا صوت لها، لكنها تتكلم حين تُوضع أمام القانون.

ثانيًا: خيوط الصفقة حين تُجَرّ من أطرافها

لقد كانت منظمة الشفافية الشاملة قد أفصحت في شهر أكتوبر عن سلسلة وقائع تخص المختبر، تُظهر كيف تَضخّمَت كُلْفَته الأصلية، لا بفعل الأجهزة ولا الخبرات، بل بعمولاتٍ ووساطاتٍ غير مشروعة.

وتكشف التقارير التي سبقت التحقيق أن الأمر يعود إلى صفقةٍ تضاعفت تكاليفها حتى بلغت ـ بحسب ما وثّقته وكالة الأخبار المستقلة ـ ما يزيد على:

2.5 مليون يورو،

ونصف مليون دولار.

وقد نُسب إلى الوزير السابق سيدي ولد ديدي أنّه تلقّى، بصفته ممثلًا عن مدير الأمن العام الجنرال مسقارو ولد اقويزي، مبالغ بلغت:

1.5 مليون يورو،

ونصف مليون دولار.

أما الوسيطان أحمد الشيخ والسني عبدات، فقد ورد أنّ كُلًّا منهما استلم 300 ألف يورو، وفق ما أثبتته الوثائق المسلّمة.

إنها أرقامٌ لا تمتلك ريشةً تطير بها، ولا ظلًّا تخفي به نفسها؛ بل هي جلاميدُ صخرٍ وُضعت في طريق الحقيقة، فإن استطاعت الحقيقة حملها، حملت معها أسماء من لامستهم.

ثالثًا: المعنى الذي يختبئ خلف ظلال المعنى

ليس في ملف المختبر ما يمكن أن يُختزل في جملةٍ أو فقرة، ولا ما يمكن أن يُساق باعتباره خللًا تقنيًا أو تقصيرًا إداريًا؛ إنّما نحن أمام تجربةٍ تختبر بنية الضمير العام.

فالوثيقة التي تُظهر تحويلًا ماليًا ليست مجرد ورقة، بل مرآةٌ تُبرز ملامح اليد التي وقّعت، والعين التي غضّت، والعقد الذي سُحِب على عجل.

وإذا كانت الأرقامُ تذكر أسماءً محددة:
محمد ولد غده، حسين أوغلو، سليمان كوجيت، سيدي ولد ديدي، مسقارو ولد اقويزي، أحمد الشيخ، السني عبدات،
فإنها تُذكّر في الوقت نفسه بأن القضية ليست في الأسماء، بل في الخيوط التي تصل بينها.

إن سؤال المختبر ليس: من قبض؟
بل: كيف مضت الصفقةُ من أولها إلى آخرها في طريقٍ كان كلُّ منعطفٍ فيه يحجبُ أمرًا، ويكشف آخر؟

رابعًا: حين تصبح الحقيقة أثقل من أن تُخفى

القضية ـ في جوهرها ـ اختبارٌ لقدرة المؤسسات على النظر في المرآة دون أن ترتجف؛
فليس المطلوب أن تتسع الأوراق، بل أن تتسع الإرادة.

وقد أثبتت الوثائق المُسلّمة أن الخطاب العام لا يعيش على الشعارات، بل على البيّنات.
وأن العدالة ليست ما يُقال في المنابر، بل ما يُكتب في دفاتر التحقيق، ويُقاس بالحقائق، لا بالرغائب.

وبين كل سطرٍ وسطر، تظهر حقيقةٌ كالنصل:
أن المختبر الذي أُريد له أن يكون أداةً للبحث عن الحقيقة… أصبح هو نفسه حقيقةً تُبحث.

وهكذا تمتد القضية، لا كخبرٍ يُتلى في مجلس، ولا كحكايةٍ تُقصُّ في ساعة، بل كـ شجرةٍ ذات جذورٍ بعيدة، كلما حُرّكت غصونها انكشفت جذوعٌ أعمق.

إنها قضيةٌ كُتب عليها أن تُحيي أسئلةً كانت نائمة، وأن تُحرّك مياهًا كانت راكدة، وأن تضع أمام المؤسسات امتحانًا لا يُقبل فيه التردد.

فالوثائق قُدمت، والأسماء وردت، والأرقام نُشرت، ولم يبق إلا أن تُكتب النهاية بيد العدالة لا بيد المتفرجين.

ويبقى السؤال الذي يطلّ من شرفة النص:
هل سيصل التحقيق إلى منتهاه، أم سيقف عند منتصف الطريق كما وقفت قبله ملفاتٌ أخرى؟

هذا ما ستقوله الأيام…
أما الحبر فقد قال ما عنده.