
بنشاب : في فسحةٍ من ليل الدولة، حين تتثاقلُ الأقدار فوق صدور الرجال، وتضطربُ الموازين بين مُمسكٍ بالزمام ومُنازِعٍ له، تتشكّلُ في الغياب أصداءٌ لا يسمعها إلّا من أُشرب فطرة التأويل، وأوتيَ حِدّة البصيرة ونفاذ الفهم. هناك، في تلك الهوّة التي تفصل الهمس من الفعل، تُنسَج الخيوط التي تُحرّك ظاهر المشهد، ويُعاد ترتيب المصائر في صمتٍ أشدّ فتكًا من هدير الطبول.
قيل إن المَلك ـ وهو رمزٌ للسلطان كلّ سلطان ـ قد أرسل في الصباح ريحًا باردة تحمل في طيّها رسالةً مبهمة، لا تُفصح عن اسم، ولا تُشير إلى وجه، لكنها تُلقي ظِلّها على رجلين كانا يُعدّان في أعراف البلاط كقطبين متقابلين، لا يمنع أحدهما امتداد الآخر إلّا بقدر ما يمنع الفجرُ الظلمةَ من التمدّد.
وكان أحدهما ـ الموصوف بالعزم والقدم الراسخة في دهاليز القوة ـ قد خرج قبل أيام بخطابٍ يُشبه الشرارات الأولى لاصطدامٍ غير مُعلَن، فارتجّت أروقة القصر، وتناقل الحَجَبةُ كلامًا مموّهًا عن مفاتيح خفية، وأوراقٍ مودعةٍ في خزائن الغيب، لا يعرفها إلّا من ذاق طعم السّلطة يومًا وشرب من مواردها المُرة والحُلوة سواء.
أما الآخر ـ وهو الوزير الذي عرف كيف يُدير ألسنة الريح ـ فجاء بردّ لا يصرّح، ولا يُسَمّي، لكنه يُلقي حجارةً صغيرة في بركةٍ راكدة، ويترك للدوائر أن تتّسع وحدها حتى تبلغ الضفّتين. هكذا بدا المشهد لمن تأمله: إشارة متوارية تُشبه تذكيرًا بملفٍ لم يَصِل بعد إلى نهايته، لكنه يُخرِج رأسه بين حينٍ وآخر ليقول: هنا شيءٌ لم يُغلق بعد.
ومن وراء الستار، وقف الوزير الثالث، رجلٌ يعرف أن العواصف إذا هبّت لا تُمهل، وأن النار إذا استعرَت لم تُبقِ على حطبٍ أو حجرٍ إلّا جعلته وقودًا. كان يُراقب بصرًا لا يطرف، ويحسب حساب الزمن الآتي، فالعروش لا ترحب بطموحين كُثر، والساحات الضيقة لا تتّسع لخطوتين في الاتجاه ذاته.
ولم يكن خافيًا على أحدٍ أنّ الدولة ـ أي دولة في هذا العالم الرمزي الذي نرسمه ـ لا تُدار بسطح الوقائع فقط، بل بباطنها الأعمق، ذاك الذي يتصارع فيه من يريد أن يُبقي الخيوط بيده، ومن يخشى أن تمتد يدٌ أخرى لتقصّر ظلاله، أو تعيد رسم حدود القوة من جديد.
ولذا انتشرت في البلاط قراءاتٌ متباينة:
من قائلٍ إن الملك أراد أن يلوّح بالعصا قبل أن يُشهِرها، إلى آخر يرى أنّ كلّ ما يحدث ليس سوى جسّ نبضٍ، لمعرفة من يقف ومن يتراجع، ومن يحتفظ بخزانٍ من النفوذ يستطيع أن يُشعل به حربًا صغيرة تكفي لإرباك الموازين.
وبين تلك القراءات، ظلّ السؤال الأكبر معلّقًا في فضاء القصر:
هل سيطأ أحد القطبين العتبة، ويُلوّح براية الاستسلام؟ أم أنّ في الجعبة أوراقًا لا يعرفها أحد، تُستخرج في اللحظة التي يختنق فيها الوقت؟
ذلك أن الرجلين ـ كلاهما ـ لم يكونا من طينة سهلة؛ فكلّ منهما عرف دهاليز الدولة، وتنفّس هواءها العميق، وسار في أنفاقها التي لا يجرؤ فيها إلاّ أصحاب العزم والسطوة. ومع ذلك، كانت عين الملك تتنقّل بينهما كما تتنقل بين ريشتي ميزانٍ واهٍ، تُدرك أن سقوط إحداهما كفيل بأن يُربك كلّ المعادلات.
وهكذا يبقى المشهد معلقًا بين احتمالاتٍ لا يحصيها إلا من خبر أحوال الدول، وعرف أن السياسة ليست صراعًا على المواقع فقط، بل معركة ظلال، وصراع صمت، وتوازن خوفٍ ورجاء.
ستتكشّف الأيام المقبلة عن لبّ الحقيقة، فالأحداث لا تظلّ في حجابها طويلًا؛ إمّا أن ينجح صاحب الريح في بسط نفوذه وخلع ما بقي من أجنحةٍ تُنازعه، أو تنهض الأجنحة ذاتها في وجهه، لتقول له: توقف؛ فالعرش لا يُدفع إليه دفعًا، بل يُؤتى إليه حين تستقيم الساعة.
وبهذا يبقى الباب مشرعًا للغد، والغد وحده سيكشف أيّ الظلال أطول، وأيّ الرجال أرسخ، وأيّ الأقدار كانت تُهيَّأ في ليلٍ لم يفهم أسراره إلا القليل.

