
بنشاب : ما أكثرَ ما تتكئُ البياناتُ السياسية على صخبِ العبارات حين يعوزها البرهان، وما أشدَّ ما تتشبّثُ بالمبالغات حين تضيقُ عنها ميادينُ الدليل. وهكذا خرج بيانُ حزب الإنصاف على الناس كمن يذرُّ الرماد في العيون، يريد أن يُلبس على الرأي العام أمرَه، وأن يصوغ من ضجيج الكلمات ستاراً يحجب به ضوء الحقّ، غير مدركٍ أنّ الحقَّ لا تُطفئه بياناتٌ تُكتب على عجل، ولا تُقنع الأحرارَ سردياتٌ تتناقض مع ذاكرة الشعب وواقع التجربة.
في هذا السياق، كان لا بدّ من كلمةٍ تُعيد للميزان اتزانه، وللأسماء مقاماتها، وللمواقف حقّها في الضياء.
أولاً: سيدنا عالي ولد محمد خونه
لم يكن الوزير السابق سيدنا عالي ولد محمد خونه يوماً من أولئك الذين يتكلمون لملء الفضاء، ولا من الذين يقتنصون اللحظة ليبيعوا مواقف الأمس. فالرجل معروفٌ بثباته حين تميد المواقف، وبقوله حين يصمت الكثيرون، وبسداد رأيه حين تتشعّب المسالك.
وإنّ قوله بشأن مستقبل الرئيس الحالي محمد ولد الغزواني لم يكن زفرةَ غضب، ولا نوبة انفعال، بل كان تبرئةً للذمّة أمام التاريخ، وتنبيهاً صريحاً إلى أن مقامات السلطة لا تستقيم إلا بميزان العدل، وأنّ من يفتح باب المحاسبة انتقائياً، سيجد الباب نفسه مفتوحاً أمامه ذات يوم دون انتقاء.
إن محاولة حزب الإنصاف تصوير هذا الكلام على أنه “خفة” أو “ابتعاد عن مقتضيات الخطاب الوطني الجاد” ليست سوى التفاف لغويّ على حقيقةٍ يعرفها القاصي والداني:
أنّ سيدنا عالي ولد محمد خونه لا يقول إلا ما يزن بميزان الخبرة، ولا يعبّر إلا عما يراه واجب القول مهما ضاق من في الضيق.
ثانياً: الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز
– الرئيس السابق، وصاحب التاريخ الذي ما زالت ساحات الدولة تشهد به – فمحاولة الانتقاص من سيرته أو تصويره بوصفٍ يجافي ما قدّم ليست إلا دوراناً في فراغ.
فالرجلُ هو من تصدّى للفساد مواجهةً لا ادّعاء، وواجه المفسدين صراحةً لا مواربة، وشقّ طريقاً في الحكم لم تستطع الخطابات اللاحقة أن تطمس معالمه.
وإنّ الحديث عن “محاربة الفساد” اليوم، وهو يُرمى بها الرجلُ الذي أنشأ بنيتها الأولى، لا يعدو كونه تزييناً لفظياً يخفي وراءه عجزاً عن بلوغ مستوى ما أُنجز قبلاً.
لقد كان محمد ولد عبد العزيز – لمن أراد الإنصاف – مدرسةً في الحزم، ومنهجاً في صون هيبة الدولة، ورجلاً لا تُقاس إنجازاته ببياناتٍ تُكتب لإطفاء الحرائق الإعلامية.
ثالثاً:
إن البيان الذي صدر عن حزب الإنصاف لم يحمل من محاسن المنطق إلا القشرة، ولم يأتِ من برهان الشفافية إلا ما تلوّنه فرشاة السياسة. فالحديث عن “محاربة الفساد” و“استقلالية القضاء” و“هيئات الرقابة” جميلٌ في السمع، لكنه في التطبيق لا يقوى على الصمود أمام الأسئلة الكبرى التي يتجنب الحزب طرحها على نفسه قبل غيره.
والاستشهاد بمحاكمة الرئيس السابق كحجةٍ على “النزاهة” لا يستقيم إلا إذا اقتنعت العقول بأن العدالة انتقائية، وبأن الدولة تختار من تحاسبه وتترك من تتغاضى عنه، وهو ما يناقض مبادئ المساواة التي يرفعها الحزب في شعاراته، ثم يهدمها في ممارساته.
وأما الإشارة إلى تقرير محكمة الحسابات بوصفه “إنجازاً شفافاً”، فهي حيلةٌ لفظية تُراد بها صناعة بطولةٍ من فعلٍ إداري عادي، لا يكفي لتبرئة السلطة مما تُثار حوله الأسئلة، ولا يمنح الحزب ما يسعى إليه من شرعية سردية.
إن محاولة حزب الإنصاف النيل من مقام سيدنا عالي ولد محمد خونه لن تغيّر من مكانته قيد أنملة، كما أنّ السعي إلى تشويه إرث الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز لن يمحو ما كان له من آثار في بناء الدولة ومحاربة الفساد يوم كان الفسادُ يتغوّل ولا أحد يتجرأ على تسميته.
إنّ التاريخ لا يُكتب ببياناتٍ تُعدّ في مكاتب مغلقة، بل يُكتب بمواقف الرجال وشهادة الشعب.
وحقٌّ على القلم – حين يُقال الحق أن يرفع الأسماء التي رفعت مواقفها، وأن يضع في موضع النقد من تهاوت حججه ولو تجمّل بزخرف الكلام.
وهكذا تبقى الحقيقة أعلى من ضجيج الادعاء، ويبقى الرجال – أمثال محمد ولد عبد العزيز وسيدنا عالي ولد محمد خونه – فوق ما تُلصقه البيانات المتعجلة، وفوق ما يُدار في غرف السياسة من محاولات التلميع أو التشويه.
فمن كان له في الحق سندٌ، فلن تضرّه أصداء البيان،
ومن كان حجته واهية، فلن ينفعه طول الكلام.

