
بنشاب : حين تُقلب صفحات التاريخ القريب، تُطلّ علينا لحظات تختزل في مشهدٍ واحدٍ معاني القرب من الشعب، وصدق الالتحام بين القائد والأمة. هناك، في أقصى الشرق الموريتاني، في الحوض الشرقي، كانت مدينة النعمة مسرحًا لمشهدٍ لم يزل عالقًا في ذاكرة الجماهير؛ مشهدٌ تتداخل فيه نبضات القلوب مع وقع الخطى، وتهتف فيه الحناجر باسم قائدٍ رأى فيه الناس وجه دولتهم، وصوت كرامتهم، ورمز صمودهم: الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز.
في ذلك اليوم، لم تكن النعمة مدينةً فحسب، بل كانت أفقًا ممتدًّا من الولاء الشعبي الصادق، حيث تماوجت الأعلام فوق رؤوس الآلاف، وانصهرت المسافات بين القصر والميدان. هرع الناس من القرى والبوادي، رجالًا ونساءً، شيوخًا وشبابًا، يحملون في ملامحهم فرحًا نادرًا، ودهشةً مكلّلةً بالإجلال.
استقبله الوالي والقيادات العسكرية والأمنية، لكن الاستقبال الحقيقي كان في عيون الشعب التي كانت تلمع كما يلمع السرور حين يُعانق الأمل واقعه. كانت الزيارة تجلّيًا لمعنى الدولة التي تذهب إلى مواطنيها لا لتخطب ودّهم، بل لتستمع إلى أنينهم وتقرأ حاجاتهم في وجوههم.
لم يكن اللقاء السياسي هو الحدث، بل الحدث كان الإنسان نفسه، حين اقترب من رئيسه دون حواجز، ولا بروتوكولات، ولا أسيجةٍ تفصل القلب عن القلب. في الفيديو، يتبدّى المشهد كما لو أنه قصيدةٌ حيّةٌ تتحرك على الأرض: امرأة تخاطب الرئيس بعفوية الأمّ، والرئيس يُنصت بجدّية الأب؛ طفلٌ يحاول أن يلمس يده، وشيخٌ يلوّح له من بعيد كمن يودّع غيمةً مرت على قريته تحمل المطر.
لقد كانت تلك الزيارة تحمل ثلاثة وجوهٍ للغرض، كأنها ثالوث الدولة والإنسان والتنمية:
وجهٌ أول للإطلاع والمعايشة، لا من وراء تقارير ولا تقارير مضادة.
وجهٌ ثانٍ للقاء الشعب في نسخته الرابعة، حيث تكون المنابر للناس لا للسياسة.
وجهٌ ثالثٌ للتنمية، تجسده أحجار أساسٍ وُضعت على أرض الحلم لتتحوّل مشاريع واقعية تمسّ حياة المواطن في غذائه ومائه وكرامته.
أما المشهد فكان حميميًا إلى حدّ الدهشة: ابتساماتٌ تتبادلها السلطة والشعب، وعفويةٌ نادرةٌ في زمنٍ تتوارى فيه الصراحة خلف المظاهر. كان المشهد شهادةً ناطقة على عهدٍ حمل في طيّاته حرارة التواصل، وصدق الاقتراب، وصفاء النية.
ثم جاءت المقارنة التي لا تحتمل اللبس ولا المجاملة.
شتّان، ثم شتّان، بين عهدٍ يجيء فيه الرئيس إلى الناس، وعهدٍ يأتي فيه الناس إلى الرئيس فلا يجدون إليه سبيلًا.
شتّان بين من كان قلبه في الميدان، وبين من اكتفى بالمشهد من خلف الزجاج.
شتّان بين من خاطب الناس بلسان الموقف، ومن خاطبهم بلغة البيانات.
إنّ الصورة وحدها، كما قيل، لا تكذب؛ والفيديو شاهد لا يُحاجّ.
هكذا تبقى زيارة النعمة — في ذاكرة الوطن — مرآة لحقبةٍ التقت فيها الدولة بالمجتمع دون وسيط، وامتزجت القيادة بالناس امتزاج العصب بالدم.
إنها لحظةٌ يصعب تكرارها، لأنّها لم تكن حدثًا بروتوكوليًا عابرًا، بل كانت وثيقة وجدانية بين رئيسٍ وشعبٍ أحبّ بعضهما بصدقٍ نادرٍ في زمن السياسة الباردة.
ومن النعمة، حيث بدأ النبض الشعبي الحقيقي، يُرفع الستار عن حقيقةٍ لا تمحوها الأيام:
إنّ الزعيم الحقّ لا يُصنَع في القصور، بل يُولد في الميدان، بين أنفاس الناس ودموعهم وابتساماتهم.
