
بنشاب : شهدت موريتانيا خلال العقدين الأخيرين ازدهارًا في أنشطة التعدين بشقيها الصناعي والتقليدي، مما جعل الرقابة البيئية على هذا القطاع مسألة حيوية. وفي تقريرها السنوي العام لسنتي 2022–2023 الصادر في يونيو 2025، سلطت محكمة الحسابات الموريتانية الضوء على سلسلة من الاختلالات البيئية الخطيرة المرتبطة بأنشطة التعدين واستخراج المعادن . يكشف التقرير عن أضرار بيئية جسيمة نتجت عن استخراج الذهب والمعادن الأخرى – بدءًا من تدهور السواحل بسبب استخراج الرمال الشاطئية، ومرورًا بتراكم النفايات الصلبة والسائلة دون معالجة، وتسرب المواد الكيميائية السامة، وصولًا إلى الاستخدام العشوائي لمادتَي الزئبق والسيانيد في عمليات التعدين التقليدي. كما يُبرز التقرير تقاعس بعض الجهات عن الالتزام بالضوابط البيئية وضعف إنفاذ العقوبات الردعية، رغم وجود مراسلات رسمية وتحذيرات من الجهات المختصة. في هذا التقرير الاستقصائي نستعرض أبرز ما جاء في تقرير محكمة الحسابات حول التعدين والبيئة، مع التركيز على المحاور التالية: الأضرار البيئية الناجمة، والجهات المسؤولة وتطبيقها للقوانين، والتحليل الاقتصادي للنتائج، وتوصيات المحكمة لمعالجة الاختلالات، بالإضافة إلى أمثلة دالة تشمل شركات مثل تازيازت وMCM وشركة معادن موريتانيا وغيرها. يكشف هذا الاستعراض الشامل أهمية التحرك العاجل لضمان العدالة البيئية وحماية المصلحة العامة في وجه الانتهاكات البيئية في قطاع التعدين.
أولًا: الأضرار البيئية الناجمة عن أنشطة التعدين
تآكل السواحل بسبب استخراج الرمال الشاطئية: يشير تقرير محكمة الحسابات إلى أن منح تراخيص لاستغلال ما يُعرف بــ«التربة السوداء» (وهي الرمال السوداء المختلطة بالمعادن الثقيلة على الشواطئ) تم دون مراعاة كافية للمخاطر البيئية المترتبة . ومن أبرز هذه المخاطر تدهور الحاجز الرملي الساحلي الذي يحمي الشواطئ من ضربات المد البحري . إذ أن إزالة الرمال الشاطئية تؤدي إلى إضعاف الحاجز الطبيعي أمام البحر، مما يجعل المناطق الساحلية أكثر عرضة لتوغل مياه البحر خصوصًا مع ارتفاع احتمالات المد البحري الناجمة عن التغيرات المناخية . ويحذر التقرير من أن استنزاف هذه الرمال لأغراض التعدين يشكل خطرًا بيئيًا جسيمًا على المدى البعيد. كذلك، يؤدي تشغيل آليات تجريف الرمال على الشواطئ إلى زيادة عكارة مياه البحر بشكل يضر بالكائنات البحرية الدقيقة (العوالق) التي تقع في قاعدة السلسلة الغذائية البحرية . وقد أكد وزير الصيد والاقتصاد البحري في مراسلة رسمية عام 2014 هذه النقطة، موضحًا أن تعكير المياه يخلّ بنمو العوالق ويتسبب في اضطراب السلسلة الغذائية للأسماك والقشريات والثدييات البحرية وغيرها . وبذلك فإن استخراج الرمال الساحلية لا يهدد التوازن البيئي فحسب، بل يضر أيضًا بالثروة السمكية الساحلية.
التلوث الكيميائي وتسربات المواد السامة: رصد التقرير سجلًا من الحوادث البيئية الخطيرة في أحد أكبر مناجم الذهب بالبلاد (منجم تازيازت)، تمثلت في تسربات لمواد كيميائية سامة وفي مقدمتها السيانيد المستخدم في معالجة خام الذهب . فمنذ بدء تشغيل المنجم عام 2009 وحتى 2017 وقعت عدة حوادث شملت تسرّبًا لمحلول كيميائي سام من أحواض الترشيح، وتسرّب مياه ملوّثة بالسيانيد من أحواض تجميع ونقل الخام، وتمزق حواجز عزل في برك المخلفات وغيرها . ويورد الجدول أدناه أمثلة على بعض هذه الحوادث المسجلة في منجم تازيازت، والتي صنفتها المحكمة ضمن أخطر الكوارث البيئية في القطاع:
التاريخالحادث البيئي المسجّل2015/06/19تسرّب مياه الصرف من حوض الترشيح Pad6 (منجم تازيازت)2015/09/28تسرّب مياه ملوثة في موقع من مواقع المعالجة2016/03/29 – 04/04تسرّب في نظام أنابيب التجميع بأحد أحواض المخلفات (TSF2)2017/04/04انسكاب مواد كيميائية (سيانيد) من حوض الترشيح Pad1/TSF22017/05/09تطاير رذاذ محلول السيانيد من حوض الترشيح Pad8 (الجناح الغربي)
ورغم خطورة هذه الحوادث – التي تسببت بأضرار بيئية موثقة – أشار التقرير إلى غياب خطط طوارئ فعالة لدى الشركة المشغّلة للتصدي لمخاطر هذه التسربات المتكررة . هذا التقصير في إجراءات السلامة أدى إلى استمرار وقوع حوادث مشابهة دون استخلاص الدروس، ما يفاقم تلوث التربة والمياه الجوفية في منطقة المنجم ويهدد سلامة المنظومة البيئية المحيطة. وتجدر الإشارة إلى أن بعثة تفتيش بيئي مشتركة من وزارة البيئة ووزارة المعادن كانت قد عاينت هذه الحوادث في يوليو 2019 واقترحت فرض غرامات مالية على الشركة كتعويض عن الأضرار الناجمة عنها بقيمة تُقدّر بـ 67.6 مليون أوقية ، ومع ذلك لم تُتخذ إجراءات عقابية رادعة بحق الشركة حتى تاريخ نشر التقرير.
النفايات الصلبة والسائلة المتراكمة: إلى جانب الحوادث الفجائية، يعاني قطاع التعدين من مشكلة مزمنة تتمثل في تراكم كميات هائلة من النفايات الصناعية (سواء الصلبة أو السائلة أو الملوثة بالمشتقات البترولية) في مواقع المناجم دون معالجة. يكشف تقرير المحكمة عن وجود مخزون متراكم من المخلفات لدى شركات تعدين كبرى على مدى سنوات، دون التخلص الآمن منها أو معالجتها وفق المعايير. فعلى سبيل المثال، قدّمت شركة تازيازت موريتانيا المحدودة (TML) بيانات للمحكمة تُظهر تراكم آلاف الأطنان من النفايات في منجمها حتى عام 2023 :
جدول: كميات النفايات المتراكمة في موقع منجم تازيازت (TML) خلال 2021–2023
نوع النفايات2021 (طن)2022 (طن)2023 (طن)النفايات الصلبة (مخلفات معدنية وغيرها)5,18210,2535,372النفايات السائلة (مياه معالجة ملوثة، م³)234,523221,473206,124نفايات المحروقات (زيوت وشحوم مستخدمة)1,8562,7262,430
يتضح من الجدول أعلاه أن كميات النفايات الصناعية لدى تازيازت بلغت في بعض الأعوام أكثر من 10 آلاف طن من النفايات الصلبة، وما يزيد على 200 ألف متر مكعب من النفايات السائلة . هذه المخلفات تشمل نفايات خطرة مثل الزيوت المستعملة والشحوم، إلى جانب مخلفات أخرى لم تُفصّلها الشركة في بياناتها مثل التربة والمواد الملوثة بالسيانيد وبالمحروقات، والنفايات الإلكترونية (معدات كهربائية تالفة وبطاريات) وغيرها . إن بقاء هذه الكميات الضخمة من النفايات دون معالجة يشكّل تهديدًا مباشرًا للمياه الجوفية والتربة في المنطقة المحيطة بالمنجم، خاصة أن بعض هذه المخلفات شديد السمية (كالمواد المحتوية على سيانيد) . كما قد تؤدي إلى تلوث الهواء عند جفافها أو احتراقها العشوائي، ما يعرّض السكان والعاملين لمخاطر صحية جسيمة.
وضع شركة موريتانيا للنحاس (MCM) ليس أفضل حالًا؛ فقد وثّق التقرير تراكم كميات كبيرة من نفايات التعدين في منشآت شركة MCM بمنطقة أكجوجت خلال السنوات الأخيرة ، دون أن تُعالج بالطرق السليمة أو يتم التخلص منها بشكل آمن. يبيّن الجدول التالي أهم فئات النفايات المرصودة لدى شركة MCM للفترة 2021–2023:
جدول: كميات النفايات المتراكمة في مواقع شركة MCM (أكجوجت) خلال 2021–2023
نوع النفايات202120222023مخلفات معالجة النحاس الصلبة (Tailings)2,988,937 طن2,568,163 طن2,376,883 طننفايات ملوّثة (زيوت، مواد كيميائية…)126 طن71 طن52.4 طننفايات صلبة غير ملوّثة (خشب، كرتون…)45.1 طن46.8 طن44.4 طنخزّانات بلاستيكية فارغة (سعة 1000 لتر)215 خزّان112 خزّان95 خزّاننفايات سائلة (زيوت مستخدمة)336 (وحدة)455 (وحدة)551 (وحدة)نفايات سائلة أخرى (مياه ومواد كيميائية)9,360 طن20,500 طن22,400 طن
بحسب التقرير، لا تمتثل إدارة شركة MCM لأفضل الممارسات البيئية في التعامل مع هذه النفايات . فإضافة إلى الكميات الهائلة لمخلفات النحاس (المقدّرة بملايين الأطنان كما يظهر أعلاه)، يوجد أيضًا عشرات الأطنان من النفايات الملوثة بالمواد البترولية والكيميائية (تربة ملوثة، زيوت ومخلفات خطرة) متراكمة في الموقع . وقد لاحظت بعثة التفتيش المشتركة لوزارة المعادن والبيئة عام 2021 أن طريقة إدارة النفايات في شركة MCM غير ملتزمة بالمعايير المتعارف عليها . الأخطر من ذلك أن الشركة قامت من تلقاء نفسها بأعمال لردم وإعادة تأهيل بعض برك المخلفات القديمة التابعة لشركات سابقة في الموقع (مثل حوض شركة موراك وبقايا شركة توركو) دون الحصول على ترخيص أو إشراف من السلطات المختصة . هذه الإجراءات العشوائية قد تؤدي إلى تسريب المواد الملوثة إلى البيئة بدلاً من تأمينها، نظرًا لعدم اتباع المعايير الهندسية والبيئية الواجبة في ردم المخلفات السامة.
استخدام الزئبق والسيانيد في التعدين التقليدي: يوضح التقرير أن انتشار نشاط التنقيب التقليدي عن الذهب في مناطق واسعة من البلاد ترافق مع ظهور شركات صغيرة لمعالجة خامات الذهب المستخرجة بوسائل تقليدية (يطلق عليها تصنيف الفئة F) . تعمل هذه الشركات عبر مصانع بدائية لمعالجة الأتربة والرواسب الغنية بالذهب، وتعتمد بشكل أساسي على مواد كيميائية خطرة مثل الزئبق والسيانيد لاستخلاص المعدن . نتيجة ضعف خبرة العاملين وبدائية المعدات، يسفر نشاط هذه المعالجة عن تلويث مباشر للبيئة المحيطة (المياه والتربة والهواء) ، فضلًا عن تعريض سكان المناطق المجاورة والعمال لمخاطر صحية جسيمة بسبب التعرض لهذه المواد السامة . وقد حذّرت منظمة الصحة العالمية في تقرير لها عام 2013 من الآثار الصحية الوخيمة للتعرض للزئبق في مواقع التعدين التقليدي، ومن بينها أضرار بالكلى واضطرابات في المناعة الذاتية لدى الإنسان . ويؤكد تقرير محكمة الحسابات هذه المخاطر مشيرًا إلى تسجيل حالات تلوث في المناطق الوسطى والجنوبية من البلاد ناتجة عن نشاط شركات المعالجة الصغيرة . وتتضاعف الخطورة عند قيام هذه الأنشطة في مناطق زراعية وبئية حساسة؛ حيث أن تسرب الزئبق أو السيانيد إلى التربة والمياه قد يلوث المزارع والآبار ويضر بصحة المجتمعات الريفية التي تعتمد عليها. ولهذا شددت وزارة البيئة في مراسلات حديثة عام 2023 على ضرورة منع ترخيص شركات المعالجة الكيميائية (الفئة F) في الولايات الزراعية والرعوية ذات الكثافة السكانية حرصًا على سلامة السكان والأراضي .
ثانيًا: الجهات المسؤولة والتزامها بالضوابط البيئية
وزارة البترول والمعادن والطاقة (الجهة الوصية): يكشف التقرير أن بعض الإدارات الحكومية تقاعست عن فرض احترام القوانين البيئية عند منح التراخيص للشركات المعدنية. فقد منحت وزارة البترول والمعادن عدة رخص استغلال خلال الفترة المشمولة بالتقرير دون الالتزام بإجراءات التقييم البيئي المنصوص عليها قانونًا . على سبيل المثال، منحَت الوزارة في عام 2016–2017 ثلاث رخص لاستخراج الذهب لشركتي SENI SA وTIREX SA قبل تقديم دراسات للأثر البيئي وقبل الحصول على رأي وزارة البيئة المختصة . وقد حاولت محكمة الحسابات تتبع وثائق هذه الرخص فلم تجد في الملفات ما يثبت وجود دراسة بيئية معتمدة لها، مما يشكّل مخالفة صريحة للمادة 76 من المرسوم 159-2008 التي توجب إرفاق دراسة الأثر البيئي في ملف أي رخصة استغلال معدنية . وتنص مواد قانونية أخرى (77 و79 من نفس المرسوم) على إلغاء أي طلب ترخيص غير مكتمل من حيث الوثائق ، ومع ذلك تم تمرير تلك التراخيص. وعند مساءلة الوزارة عن هذا الخرق، قدمت ردًا تضمّن وثيقة واحدة هي رسالة من وزير البيئة بتاريخ فبراير 2017 تفيد بالمصادقة على دراسة بيئية لمنجم تيجريت (تبع شركة TIREX) ، لكنها لم تقدم ما يثبت موافقة البيئة لشركة SENI عن نفس الفترة . بمعنى أن الوزارة منحت رخصة لشركة SENI بدون تأكيد نهائي من وزارة البيئة، في تجاوز للإجراءات التنظيمية. مثل هذه الحالات تدل على ضعف التنسيق بين الوزارتين وعلى تغليب الاعتبارات التجارية على الاشتراطات البيئية.
فيما يتعلق بمشاريع استغلال الرمال السوداء الشاطئية (سواحل نواكشوط وترارزة)، فقد أظهرت الوثائق أن وزارة البترول والمعادن خاطبت وزارتي البيئة والصيد عام 2014 لطلب رأيهما حول هذه المشاريع . وقد ردت كل من وزارة البيئة ووزارة الصيد بتحذيرات صريحة من المضي في تلك المشاريع لما تشكله من مخاطر ساحلية . ورغم ذلك، منح القطاع الوصي (وزارة المعادن) تراخيص الاستغلال لشركتين هما Haitian Mining Mauritanie وMauritania Titanium Resources (MTR) للحصول على المعادن الثقيلة من الرمال السوداء . اعتبرت محكمة الحسابات هذا التصرف تجاهلًا لآراء الجهات الفنية المختصة، وتساءلت عن جدوى طلب رأي وزارة البيئة ما دام لم يؤخذ بمضمون تلك المشورة . وبالفعل، تُظهر المراسلات أن وزيرة البيئة عام 2019 كررت تحذيراتها من هذه المشاريع في ثلاث رسائل رسمية وجهتها إلى وزير البترول والمعادن ، مؤكدةً خطر استنزاف الرمال الشاطئية على الساحل. ومع أن وزارة المعادن ردّت بأنها أخذت تلك المخاطر بالاعتبار عبر دراسة استراتيجية لتقييم الأثر البيئي على الشواطئ نتج عنها حظر التعدين على طول الساحل باستثناء منطقة محدودة قرب “لكويشيش” ، فإن المحكمة رأت تناقضًا بين هذه الدراسة وبين منح التراخيص فعليًا ضمن تلك المنطقة الحساسة . أي أن وزارة المعادن استندت لدراسة أوصت بالحظر شبه التام، لكنها استثنت منطقة وسمحت فيها بالاستغلال، مما يثير تساؤلات حول اعتبارات الترخيص وموازنة المنافع بالمخاطر . وإذ يؤكد التقرير أن الموافقات البيئية الشكلية تم الحصول عليها أخيرًا قبل بدء الاستغلال ، إلا أن السياق يوحي بأن القرار كان محسومًا مسبقًا لصالح الشركات ولم تتغير إلا بعد استكمال الإجراءات الورقية الضرورية.
وكالة معادن موريتانيا (القطاع التقليدي): معادن موريتانيا هي الجهة الحكومية المكلفة بتنظيم قطاع التنقيب التقليدي عن الذهب وشركات المعالجة المرتبطة به. يوضح التقرير أن الوكالة قامت في عام 2023 بطلب فتح مناطق تنقيب ومعالجة جديدة في بعض الولايات الزراعية (مثل لعصابة والبراكنة وكوركول) بهدف توسيع نشاط التعدين التقليدي . وقد وافقت الإدارة العامة للمعادن على ذلك وأعطت تعليماتها بهذا الخصوص ، فأرسلت الوكالة خطابًا رسميًا يتضمن إحداثيات تلك المناطق المطلوبة . إلا أن هذه المناطق المقترحة تقع ضمن أراضٍ زراعية ورعوية مأهولة بالسكان، مما جعل المحكمة تستنكر بشدة هذا التوجه . فبحسب التقرير، ممارسة نشاط المعالجة بالمواد الكيميائية الخطرة (كالزئبق) في وسط تجمعات بشرية وزراعية قد يؤدي إلى كوارث صحية وبيئية محققة . وقد وصلت خطورة هذه الخطوة إلى حد أن وزير البيئة والتنمية المستدامة أصدر أمرًا استعجاليًا في مارس 2023 موجّهًا إلى وزير البترول والمعادن لوقف أي ترخيص من هذا القبيل . وبالفعل، وجّه وزير البيئة رسالة رسمية (رقم 118 بتاريخ 16/3/2023) إلى وزير المعادن شرح فيها بالتفصيل المخاطر الناجمة عن شركات الفئة F في تلك المناطق ، وخلصت الرسالة إلى توصيتين أساسيتين: ضرورة إحكام تنظيم تراخيص هذه الشركات، ومنع الترخيص لها بتاتًا في الولايات الزراعية والرعوية ذات الكثافة السكانية . ويعتبر التقرير هذه المراسلة دليلًا على أن السلطات البيئية كانت مدركة تمامًا لخطر ترخيص تلك الأنشطة، إلا أن الوكالة ووزارة المعادن تجاوبتا متأخرًا وبعد ضغط من محكمة الحسابات .
الشركات المعدنية الخاصة: شمل تدقيق محكمة الحسابات عددًا من الشركات العاملة أو الحاصلة على رخص في القطاع، وكشف مدى التزام كل منها بالتعهدات البيئية المفروضة. فعلى سبيل المثال، شركة تازيازت موريتانيا المحدودة (TML) – وهي أكبر منتج للذهب في البلاد – تراكمت لديها نفايات صناعية على مدى سنوات دون خطة إدارة واضحة ، ولم تبادر الشركة إلى التخلص منها إلا بعد زيارات رقابية حديثة. وقد أفاد المدير العام للمعادن في رده للمحكمة بأن إدارته قامت أخيرًا في 2022 بإلزام تازيازت بوضع خطة عمل للتخلص من النفايات المتراكمة . لكن عند مراجعة المحكمة لهذه الخطة، وجدتها مجرد جدول نظري يفتقد لرأسية واضحة ولم يحمل توقيع أي جهة مسؤولة، والأهم أن خانة الإنجاز في الجدول كانت فارغة تمامًا – مما يعني أن الخطة لم تُترجم فعليًا على أرض الواقع. هذا يدل على مماطلة من طرف الشركة في تنفيذ التزاماتها البيئية رغم اعترافها الرسمي بالمشكلة. كذلك واجهت تازيازت سلسلة حوادث بيئية كما أسلفنا، ولم تتعرض لأي عقوبة أو غرامة من الجهات الوصية، الأمر الذي شجّع على تكرار الحوادث دون رادع . أما شركة مناجم النحاس الموريتانية (MCM) في أكجوجت، فقد أبرز التقرير أن لديها نقاط ضعف بيئية واضحة تمثلت في عدم معالجة مخلفات التعدين وقيامها بمبادرات غير مرخّصة لدفن النفايات الخطرة . ورغم أن إدارة المعادن وجّهت للشركة إنذارًا وطلبت منها اتخاذ تدابير عاجلة للتخلص من المخلفات ، إلا أن ذلك جاء متأخرًا بعد تراكم المشكلة لسنوات. ويبدو من مجمل التقرير أن الشركات الكبرى لم تكن تولي الاعتبار الكافي للتزاماتها البيئية إلا تحت الضغط، وأن الرقابة الحكومية كانت محدودة الفاعلية في فرض تلك الالتزامات خلال الفترة السابقة.
ثالثًا: التحليل الاقتصادي للنتائج البيئية
تُخلّف ممارسات التعدين محل التدقيق تكلفة اقتصادية وبيئية باهظة تتحملها الدولة والمجتمعات المحلية. فعلى صعيد الخسائر البيئية المباشرة، يؤدي تدمير الشواطئ وفقدان الحاجز الرملي إلى ارتفاع مخاطر الفيضانات البحرية مستقبلاً، ما قد يتطلب استثمارات كبيرة لحماية المدن الساحلية. كذلك، تلويث الموارد المائية والتربة بالنفايات المعدنية والمواد السامة يضر بالإنتاجية الزراعية وبصحة الثروة الحيوانية والبشرية، مما يهدد سبل عيش السكان في المناطق المنكوبة ويفرض أعباء على القطاع الصحي. لقد أشار التقرير إلى أن بعض التسربات الكيميائية في منجم تازيازت وصلت إلى عمق 50 مترًا في التربة (بحسب تصريحات بيئية)، مما يعني احتمال تسربها إلى المياه الجوفية وتلويثها على نطاق واسع، وهذا يتطلب عمليات معالجة وتنقية مكلفة إن كانت ممكنة. كذلك فإن تلوث الهواء بالانبعاثات السامة (مثل أبخرة الزئبق) في مواقع التعدين التقليدي قد يؤدي إلى انتشار أمراض مزمنة بين السكان، وما يترتب على ذلك من انخفاض الإنتاجية وضغط على خدمات الصحة العامة.
على الجانب الآخر، قيمة الغرامات البيئية التي كان يمكن فرضها على الشركات المخالفة تمثل إيرادًا مهدورًا لخزينة الدولة. فبعثة التفتيش المشتركة عام 2019 قدّرت الغرامات المستحقة على شركة تازيازت وحدها بحوالي 67.6 مليون أوقية تعويضًا عن أضرار الحوادث المذكورة ، وهو مبلغ كان يمكن توظيفه في إصلاح الأضرار البيئية أو دعم ميزانية الهيئات الرقابية. عدم تحصيل هذه الغرامة بسبب تراخي الجهات المعنية حرم الدولة من مصدر مالي هام ومن سابقة ردع لباقي المشغلين. وينطبق الأمر ذاته على رسوم وضرائب بيئية أخرى لم تُجبَ كما ينبغي؛ فالتقرير يكشف عن تأخر بعض الشركات في دفع إتاوات استغلال المقالع وعوائد أخرى مستحقة، ما استدعى توصية المحكمة بتحصيلها فورًا وتغريم المتأخرين .
من زاوية الكلفة الاجتماعية، يمكن القول إن المجتمعات القاطنة قرب مواقع التعدين تدفع الثمن الأغلى. فالمحكمة نوّهت بتعرّض العمال والسكان المحليين للمواد الكيميائية الخطرة نتيجة أنشطة شركات المعالجة التقليدية . إن إصابة أي عامل أو مواطن بالتسمم المزمن بالزئبق مثلًا تعني تكلفة علاجية مرتفعة وفقدان قوة عمل منتجة، عدا عن المعاناة الإنسانية. كما أن تلوث المزارع بالمواد السامة يؤدي إلى تلف المحاصيل أو تراكم المعادن الثقيلة فيها، وبالتالي خسارة دخل المزارعين أو تعرض المستهلكين لمخاطر صحية عبر السلسلة الغذائية. وبالنظر إلى أن كثيرًا من مناطق التعدين التقليدي تقع في ولايات زراعية (كولايات الجنوب)، فإن الأضرار تطال الأمن الغذائي المحلي وتفاقم الفقر في تلك المجتمعات الهشة اقتصاديًا.
أما العائدات المتأتية من مشاريع التعدين المثيرة للجدل (مثل استخراج الرمال السوداء)، فقد شككت محكمة الحسابات في جدواها مقارنة بحجم الضرر البيئي المحتمل . فالصفقات المبرمة مع الشركات الأجنبية في هذا المجال من غير الواضح إن كانت تعود بفائدة اقتصادية كبيرة على البلد، بينما الخطر البيئي محقق وطويل الأمد. وطرحت المحكمة تساؤلًا صريحًا: هل تستحق العائدات المحدودة التضحية بسلامة الساحل والبيئة؟ . هذا النوع من التحليل الاقتصادي-البيئي مهم لأنه يبيّن عدم استدامة بعض مشاريع التعدين إذا ما احتُسبت تكاليف إصلاح البيئة المتضررة ضمن المعادلة. وبناء على ذلك، أوصت المحكمة بإعادة تقييم مثل هذه المشاريع أخذا بعين الاعتبار الكلفة الحقيقية للتدهور البيئي الذي تسببه.
رابعًا: توصيات محكمة الحسابات ومعوّقات التنفيذ
في ضوء هذه الاختلالات، أصدرت محكمة الحسابات حزمة توصيات رسمية تهدف إلى تصحيح المسار وضمان التزام قطاع التعدين بالمعايير البيئية. يمكن تلخيص أبرز توصيات المحكمة فيما يلي:
- التشدد في متابعة الالتزامات البيئية للمشاريع المرخّصة: أكدت المحكمة ضرورة الصرامة والمثابرة في مراقبة تنفيذ خطط الإدارة البيئية للمشغلين، وخاصة في مشاريع حساسة مثل استغلال الرمال السوداء . وشدّدت على إلزام الشركات الحاصلة على التراخيص باحترام كل التعهدات الواردة في دراسة الأثر البيئي المصادق عليها، نظرًا لخطورة تلك الأنشطة الساحلية على البيئة . بمعنى آخر، أي اشتراط اشترطته وزارة البيئة أثناء الموافقة يجب متابعته وتطبيقه بحذافيره دون تراخٍ.
- وضع وتنفيذ خطط إدارة النفايات لدى الشركات الكبرى: أوصت المحكمة بشكل محدد شركة تازيازت (TML) وشركة MCM بوضع خطة شاملة لإدارة النفايات الصناعية لديهما وتطبيقها وفق المعايير المتفق عليها في عقود الاستثمار الموقعة . وشملت التوصية جميع المشغلين في مجال التعدين عمومًا، بضرورة التخلص الآمن من المخلفات المعدنية والزيوت وغيرها ضمن جداول زمنية محددة، مع رقابة دورية لضمان عدم تراكمها مجددًا. هذه التوصية جاءت بعد أن لاحظت المحكمة غياب خطة فعلية لدى تلك الشركات رغم وعودها السابقة ، وبالتالي فهي تطالب بتحويل الوعود إلى أفعال عبر خطط عمل ملموسة.
- رقابة صارمة أو بدائل لشركات المعالجة الصغيرة (الفئة F): دعت المحكمة إلى تشديد الرقابة على نشاط شركات الفئة F التي تعالج بقايا التعدين التقليدي، أو حتى النظر في بدائل تقنية لها تقلل اعتمادها على المواد السامة . وقد بررت ذلك بأن نشاط هذه الشركات ينطوي على استخدام مواد شديدة السمية (سيانيد، زئبق) يتطلب إجراءات سلامة صارمة وإمكانات فنية قد لا تتوفر لدى هذه الشركات الصغيرة . لذا توصي المحكمة إما برفع معايير الترخيص بشكل يضمن توفر وسائل الوقاية اللازمة، أو إيجاد حلول بديلة (كتقنيات استخراج خالية من الزئبق مثلا) لحماية البيئة والصحة العامة.
- تفعيل أدوات المساءلة والعقاب: طالبت المحكمة وزارة المعادن باستعمال صلاحياتها القانونية لفرض عقوبات رادعة على المخالفين. فالقوانين السارية (كالقانون المعدني 2008) تمنح الوزارة سلطة إيقاف النشاط أو إلغاء الترخيص وفرض غرامات حال مخالفة الشروط البيئية . وقد أوصت المحكمة بتطبيق هذه الإجراءات دون تردد ضد أية شركة لا تفي بالتزاماتها أو تتسبب بأضرار بيئية جسيمة. كما دعت إلى تحصيل الرسوم والإتاوات المتأخرة على بعض الشركات (مثل رسوم المقالع)، وفرض الغرامات على المتخلفين عن الدفع في آجالها ، لضمان جدية التنفيذ واحترام المواعيد.
- تعزيز قدرات الرقابة البيئية: أشارت المحكمة إلى ضرورة توفير الموارد والكفاءات اللازمة لفرق التفتيش والمراقبة التابعة لوزارة المعادن والبيئة، لتتمكن من أداء مهامها الرقابية بشكل كامل . ويشمل ذلك تزويدها بالعدد الكافي من المفتشين المختصين في المجالات البيئية (جيولوجيين، مهندسي بيئة…)، وكذلك المعدات التقنية (أجهزة قياس تلوث، مختبرات متنقلة) لضبط المخالفات في مواقع التعدين فور حدوثها. كما حثّت على تكثيف الرقابة الميدانية من خلال زيارات تفتيش دورية ومفاجئة لكل منشآت التعدين والمقالع ، وعدم الاكتفاء بالتقارير الورقية للشركات. فوجود الرقابة المستمرة على الأرض هو السبيل الأنجع لرصد أي تجاوز بيئي في حينه والحد من مخاطره قبل تفاقمها.
- حماية المناطق الحساسة ومنع الأنشطة غير المرخصة: في سياق متصل، جاءت توصيات بضرورة تفعيل الرقابة على أنشطة المقالع (مقالع الحجارة والمواد الإنشائية) للتأكد من احترامها المعايير والالتزامات ، وكذلك منع أي نشاط تعديني غير مرخص بشكل حازم . فالتقرير سجل وجود مقالع تعمل دون تراخيص، مما يعني تفلتًا من الرقابة البيئية والضريبية. وأوصت المحكمة بإغلاق هذه المقالع غير القانونية فورًا واتخاذ الإجراءات القضائية ضد أصحابها لحماية الموارد الطبيعية من الاستغلال العشوائي.
هذه التوصيات وغيرها تمثل خارطة طريق إصلاحية لقطاع التعدين من منظور بيئي. ولكن التقرير نفسه يُلمح إلى وجود عوائق أمام تطبيقها. من ذلك مثلًا، ضعف التنسيق بين الجهات المعنية: فوزارة المعادن كانت تلقي بالمسؤولية على مصالح الرقابة البيئية في وزارة البيئة فيما يتعلق بالعقوبات ، بينما يفترض أن تتم المحاسبة بتعاون الجهتين معًا. أيضًا هناك إشكالية تضارب المصالح أحيانًا، حيث تسعى جهات للاستثمار السريع دون اعتبار كافٍ للتحذيرات البيئية – كما حدث في حالة الرمال السوداء – مما قد يؤدي إلى تجاهل التوصيات ما لم يكن هناك توجيه ومتابعة حازمة من أعلى مستوى (مجلس الوزراء أو رئاسة الجمهورية). وقد قامت محكمة الحسابات بالفعل باتخاذ خطوة في هذا الاتجاه عبر إصدارها أمرًا استعجاليًا لوقف ترخيص مراكز المعالجة في المناطق الزراعية ، ما يدل على استشعارها لخطورة الوضع واستعدادها لفرض التغيير الفوري. ومع ذلك، يبقى تنفيذ بقية التوصيات مرهونًا بإرادة الجهات التنفيذية والتزامها. إن تراخي الشركات في الماضي في إعداد خطط النفايات، وتأخر الوزارات في التحرك حتى وقوع الكوارث، كلها مؤشرات على مقاومة ضمنية للتغيير قد تعيق التحسين المنشود. لذا شددت المحكمة على أهمية الاستمرار في المتابعة والمثابرة حتى بعد صدور التقرير – أي عدم الاكتفاء بالتوصيات المكتوبة، بل مراقبة مدى تنفيذها فعليًا على أرض الواقع.
خامسًا: أمثلة وحالات دراسية بارزة
يسلط تقرير محكمة الحسابات الضوء على أمثلة محددة تجسّد الإشكاليات الآنفة الذكر، وفيما يلي استعراض لأبرزها:
1. شركة تازيازت موريتانيا المحدودة (TML): تعتبر تازيازت أكبر شركة تعدين في موريتانيا (تشغّل منجم تازيازت للذهب شمال البلاد)، وقد ورد اسمها مرارًا في التقرير كمثال على التهاون البيئي مقابل التركيز على الإنتاج. سجلت الشركة عدة حوادث تسرّب خطيرة للسيانيد والمواد السامة بين 2015 و2017 – كما في الجدول أعلاه – دون أن تواجه أية مساءلة أو عقوبة من السلطات . ورغم جسامة تلك الحوادث وما تسببت به من تلوث، اكتفت الجهات الوصية بمخاطبة الشركة ومطالبتها بتصحيح الأوضاع دون تفعيل للعقوبات المنصوص عليها قانونًا . كذلك كشف التقرير عن تراكم كبير للنفايات الصناعية في موقع المنجم (آلاف الأطنان من المخلفات الصلبة والسائلة) دون معالجة على مدى سنوات . ولم تتحرك الشركة بشكل جدي إلا بعد أن أجرت إدارة المعادن تفتيشًا عام 2022 وألزمتها بوضع خطة للتخلص من النفايات . لكن كما تبين، ظلت تلك الخطة حبراً على ورق ولم تنفَّذ فعليًا . وقد أوصت المحكمة بأن يتم إلزام تازيازت بتحديث خطة إدارة النفايات وتطبيقها فوريًا مع إخضاعها لرقابة مشددة ، وبأن تتحمل الشركة تكلفة تنظيف المخلفات المتراكمة وتعويض أي أضرار نجمت عنها. يُذكر أيضًا أن المحكمة تطرقت إلى جانب آخر يتعلق بتازيازت وهو التزامات الشركة تجاه العمالة الوطنية (مرسوم “مرتنة” الوظائف)، حيث لوحظ تأخر في إحلال الكوادر الوطنية محل الأجنبية – ورغم أن هذا الجانب إداري إلا أنه يرتبط بالاستدامة الاجتماعية لعمل الشركة في موريتانيا.
2. شركة مناجم النحاس الموريتانية (MCM): تمثل شركة MCM العاملة في منجم النحاس والذهب بأكجوجت حالة أخرى من القصور البيئي الذي وثقته المحكمة. فعلى مدار سنوات التشغيل راكمت الشركة كميات ضخمة من نفايات التعدين (ملايين الأطنان من مخلفات معالجة الخام، ومئات البراميل من الزيوت المستعملة، وغيرها) دون معالجة . وكانت الشركة تقوم أحيانًا بمحاولات ذاتية للتخلص من بعض المخلفات أو إعادة تأهيل مواقع قديمة دون تنسيق مع الجهات الرسمية ، مثل ردمها لحوض مخلفات تابع لشركة سابقة في الموقع دون ترخيص. مثل هذه التصرفات تشكل مخالفة صريحة للإجراءات وتعرض البيئة المحلية للخطر. وقد استجوبت المحكمة إدارة المعادن عن ذلك، فجاء الرد بأن مفتشي الوزارة زاروا الشركة مؤخرًا ووجّهوا لها إنذارًا بضرورة التخلص الفوري من النفايات السائلة والصلبة المتراكمة في الموقع . كما أُشير إلى اتفاق جرى مع الشركة على خطة للتخلص من المخلفات في المستقبل. لكن المحكمة انتقدت تأخر هذا التحرك، معتبرة أنه كان ينبغي إلزام MCM منذ البداية بخطة إدارة بيئية متكاملة. وقد أوصت المحكمة بأن تُلزَم الشركة بوضع برنامج زمني واضح لمعالجة المخلفات وفق المعايير، وأن يتم رصد أداء الشركة بيئيًا بشكل مستمر لضمان عدم تكرار المخالفات. وتجدر الإشارة إلى أن شركة MCM واجهت أيضًا تحديات تتعلق بالسلامة العامة؛ فالتقرير ذكر ضرورة تشديد الرقابة على تخزينها لمادة نترات الأمونيوم شديدة الانفجار التي تستخدم في تصنيع المتفجرات التعدينية ، عبر شركة فرعية (OMIC) تستورد تلك المادة. وقد نبهت المحكمة إلى وجوب مضاعفة إجراءات السلامة في التعامل مع هذه المواد الخطرة في موقع الشركة حمايةً للأرواح والممتلكات .
3. الوكالة الوطنية “معادن موريتانيا”: تُعد هذه الوكالة نقطة محورية في تنظيم قطاع التعدين الأهلي وشركات الفئة (F)، لذا فإن دورها في الالتزام البيئي يخضع للتدقيق. أظهر التقرير أن الوكالة سعت لتوسيع أنشطة المعالجة التقليدية إلى مناطق جديدة دون مراعاة كافية لمخاطر ذلك ، ما استدعى تدخلًا من وزارة البيئة ومحكمة الحسابات لوقف تلك الخطوة . إن الدروس المستفادة هنا هي ضرورة أن تقوم معادن موريتانيا بإجراء دراسات مسبقة معمقة قبل اقتراح فتح أي منطقة تنقيب جديدة، خاصة في المناطق الزراعية أو القريبة من التجمعات السكانية. كما ينبغي لها التنسيق التام مع وزارة البيئة وأخذ موافقتها الصريحة خطيًا قبل المضي في أي مشروع. وقد أوصت المحكمة بأن تُدرج الاشتراطات البيئية بوضوح في عقود الترخيص الصادرة عن الوكالة، وأن تعتبر أي خرق لها سببًا كافيًا لإلغاء الترخيص . ويتعين على الوكالة أيضًا تكثيف حملات التوعية بين المنقبين التقليديين حول مخاطر استخدام الزئبق والسيانيد بطرق بدائية، وتشجيع البدائل الآمنة بالتعاون مع الجهات الدولية المتخصصة.
4. شركات أخرى مذكورة في التقرير: تضمن التقرير السنوي حالات أخرى جديرة بالذكر، منها شركتا SENI وTIREX في مجال التنقيب عن الذهب، واللتان حصلتا على رخص استغلال كما أسلفنا دون استيفاء المسار البيئي القانوني . هذه الحالة تقدم مثالًا واضحًا على ثغرات الرقابة في منح التراخيص، حيث استفادت شركتان صغيرتان نسبيًا من تراخٍ إداري لتباشرا نشاط التعدين بلا دراسة أثر بيئي معمقة. وهناك أيضًا شركتا Haitian Mining Mauritanie وMTR اللتان مُنحتا تراخيص الرمال السوداء؛ فبالرغم من إكمالهما لإجراءات الدراسة البيئية لاحقًا ، إلا أن حالتهما تعكس تسرّعًا في الترخيص لمشروع ذي أثر بيئي كبير وموضع جدل. بالإضافة إلى ذلك، أشار التقرير إلى شركة EIFFAGE الفرنسية التي استغلت مقالع حجارة في البلاد، حيث لاحظت المحكمة أن الشركة لم تسدد إتاوات الاستغلال المستحقة عن نشاطها لسنوات . وقد أوصت المحكمة بتحصيل مستحقات الدولة كاملة من هذه الشركة ومثيلاتها، وتطبيق عقوبات صارمة لضمان عدم التهرب من الالتزامات المالية والبيئية. مثل هذه الأمثلة تبين أن نطاق المشاكل يشمل شركات كبيرة وصغيرة، وطنية وأجنبية على حد سواء – ما يستدعي رقابة شاملة لا تستثني أحدًا.
خاتمة وتقييم شامل
يعكس التقرير السنوي لمحكمة الحسابات صورة مقلقة لوضع الرقابة البيئية في قطاع التعدين الموريتاني خلال عامي 2022–2023. فعلى الرغم من أهمية هذا القطاع في رفد الاقتصاد الوطني، إلا أن ذلك لا ينبغي أن يكون على حساب صحة المواطنين وسلامة البيئة. لقد كشف التقرير عن ثغرات بنيوية في إدارة هذا الملف: بدءًا من التجاهل أو التأخير في تطبيق القوانين البيئية عند منح التراخيص، مرورًا بضعف التنسيق بين الجهات الفنية والوصية، ووصولًا إلى تراكم المشكلات دون حلول جذرية. كما أبرز افتقاد الأجهزة الرقابية للإمكانات اللازمة أحيانًا، ما أدى إلى استمرار التجاوزات البيئية دون رصد أو عقاب فوري.
مع ذلك، فإن تدخل محكمة الحسابات بهذا الشكل التفصيلي وإصدارها توصيات ملزمة يشكل بارقة أمل نحو تصحيح المسار. فالتقرير لم يكتف بالتشخيص، بل قدّم خارطة طريق واضحة لتعزيز العدالة البيئية في مجال التعدين – عبر إلزام الشركات بالإصلاح، وتقوية قبضة القانون، وضمان تحمل المسؤولية على كل المستويات. ويبقى الآن الدور على السلطات التنفيذية (وزارة المعادن ووزارة البيئة وغيرها) في ترجمة هذه التوصيات إلى واقع. إن المصلحة العامة تتطلب التحرك العاجل: فالموارد الطبيعية هي ثروة للأجيال القادمة، وأي تدمير لها اليوم سينعكس سلبًا على مستقبل التنمية. كما أن العدالة البيئية تقتضي حماية الفئات السكانية الضعيفة (كالمجتمعات الزراعية قرب مواقع التعدين) من تحمل تبعات التلوث الذي لم يساهموا فيه.
وفي المحصلة، يشكل هذا التقرير جرس إنذار قوي: لا تنمية مستدامة دون احترام صارم للبيئة والقانون. فإذا أرادت موريتانيا تحقيق استفادة اقتصادية من كنوزها المعدنية دون إلحاق ضرر بشعبها وأرضها، فعليها الموازنة بين الربح السريع والآثار طويلة المدى، وتطبيق مبدأ “الملوِّث يدفع” بحزم. وسيكون الاختبار الحقيقي في الأشهر والسنوات القادمة هو مدى تنفيذ التوصيات وإصلاح الخلل. وإن كانت محكمة الحسابات قد أدت دورها الرقابي والتوجيهي، فإن الكرة الآن في ملعب صناع القرار لإثبات حرصهم على مصلحة الوطن وصحة المواطنين عبر تصحيح مسار قطاع التعدين نحو تنمية أكثر استدامة وعدالة.
