من ثوابت ذرائع الإخفاق السياسي في موريتانيا تَغَنِّي قادتها بلازمة رائجة جدا، و مستنسخة و مستهلكة بكثرة، هذه الأيام تقول: "إن موريتانيا أفضل حالا من دول الجوار".
و رغم كثرة شواهد الامتحان، التي تكذب هذا الادعاء البائس الخامل، على جميع الصعد، فقد جاء قرار المجلس الدستوري السنغالي الأخير الذي يلغي مرسوما رئاسيا و قانونا صادرا عن البرلمان يقضيان بتأجيل الانتخابات الرئاسية، لمخالفتهما للدستور، ليذهب إلى ما هو أبعد من تكذيب تلك اللازمة، و يفضح عمق درك الانحطاط السحيق الذي تردينا فيه اليوم، و بُعْد البون الذي أصبح يفصلنا - في عهد الرموز- عن جارتنا الجنوبية الأقرب!
نعم، لقد كانت السنغال متفوقة علينا كثيرا عند النشأة، و لكننا في عهد المغفور له الرئيس المؤسس المختار ولد داداه تداركنا بعض ما فاتنا من فرص التقدم، و قلصنا ما تفوقت علينا به في زمن الاستعمار، حين كانت وصية علينا لحد أن مشروع دولتنا الوليدة رأى النور و ترعرع على أرضها حين لم تكن لدينا عاصمة و لا بنى تحتية و لا اقتصاد! بل سرعان ما حزنا قصب السبق عليها في مجالات من بينها حرية القرار، و مراجعة الاتفاقيات الاستعمارية، و طرد القواعد العسكرية الأجنبية، و تحرير الاقتصاد و إنشاء عملة وطنية، و الخروج من الهيمنة الثقافية الفرنسية و أداتها اللغة الفرنسية!
و رغم كبوتنا و تيهنا في دوامة الأنظمة العسكرية الرجعية.. فقد نهضنا من جديد في عهد الرئيس محمد ولد عبد العزيز فقطعنا أشواطا أخرى نحو الندية مع جارتنا الأقرب كان من بينها التحكم في مياهنا الإقليمية و السيطرة على حدودنا و تحصينها بعد أن كانت نهبا (ميناء و قاعدة انجاﯕو) و امتلاك جيش قوي، و اقتصاد واعد و إنتاج فائض من الكهرباء يصدر إليها.
... ثم كبونا من جديد تحت سنابك العصبية القبلية و الفساد فمزقنا دستورنا بأيدينا و جعلنا من البرلمان دمية، و دمرنا مؤسستي الرئاسة و القضاء، و أبحنا نهب المال العام، و هدمنا أسس الدولة فلا ناهي و لا منتهي!
واطَّبَى المشهد الموريتاني "الجديد" بعض ساسة السنغال، فسال لعابهم، و حاولوا استنساخه و نقله إلى بلادهم و السير بها إلى الوراء، فكانت المعارضة السنغالية القوية بشبابها الواعي، و المؤسسات السنغالية الراسخة بقضائها و مجلسها الدستوري لهم بالمرصاد.. فولوا الأدبار!
قد يقول قائل: ما سر هذا البون الشاسع اليوم بين الجارتين موريتانيا و السنغال؟ أ و لسنا أفضل حالا من دول الجوار، و لدينا معارضة و مجلس دستوري و قضاء؟ أباء تجر في السنغال، و أخرى لا تجر في موريتانيا؟
و لكن الجواب على هذا التساؤل قدمه أبو علم الاجتماع عبد الرحمن ابن خلدون في مقدمته منذ سبعة قرون؛ و ذلك انطلاقا من واقع البلدين، حيث تَبَيَّنَ بالأدلة الملموسة من خلال "ملف العشرية" في موريتانيا و ملف الانتخابات الرئاسية و المعارض سونكو في السنغال، أن هناك دولة و ديمقراطية و عدالة، و هنا قبيلة و استبداد و ظلم!
يقول ابن خلدون: إن القبيلة إذا قوي سلطانها ضعف سلطان الدولة؛ و إن الاستبداد يقلب موازين الأخلاق، فيجعل الفضائل رذائل، و الرذائل فضائل، وإن الظلم مُخَرِّبٌ للعمران، و يعود الخراب في العمران على الدولة بالفساد والانتقاض!
فهل من مدَّكِر؟!