بنشاب : نشر موقع موريتانيا تجمعنا:
استمعت لهذا الفيديو من زميلين، أعرفهما حق المعرفة، في التاريخ السياسي، وفي المسار الوظيفي، وفي المستوى الأكاديمي، ولا أخفي ما انتابني من الذهول والحيرة، لا لأنهما يقولان مثل هذا اللغو والشطط، ولكن سر الذهول والحيرة في أن هذا الكلام يصدر من عالمين، عليمين بحكم الله، وعالمين بالقرآن الكريم، حفظا ودراية، يعلمان ما توعد الله به الظالمين، والمنافقين، والكاذبين، والشاهدين شهادة الزور، التي كرر رسول الله صلى الله عليه وسلم التحذيرَ منها، حتى قال الصحابة ليته سكت، وما في اليمين الغموس التي لا يفتأ الوزير يرددها كلازمة وهو عليم بها وبما ورد فيها!...
أنا لا أقول إن القوم يقرأون القرآن، لا يتجاوز تراقيهم، ولو أن الحال دل على ذلك، ولا أستجلي خبايا النفس ولا ما تكن الصدور، وأعلم علم اليقين، إيمانا واحتسابا - وهما يعلمان ذلك معي - قوله عز وجل : ( وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ۖ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا، اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا )
ذكرت ذلك، لمّا رأيت الحاضرين، وقد اشرأبت أعناقهم من هول الصدمة والذهول من عالمين يسمعون كلامهما وتحاورهما، وهما يتبادلان عبارات ما أنزل الله بها من سلطان، مخبأة في زخم من الكلام، يستظهر العلم والفقه والوعظ والإرشاد، وقصص الذين قبلنا، ليُطفئ بردُه حرَّ ما استبطن من تدليس ومغالطة وتلفيق!...
نحن اليوم في عصر، تسجل فيه بالصوت والصورة أغلب الآثار والأخبار من سير الناس، ولسنا في مجال التذكير بها ولا بما كان من إنجاز مشهود في فترة الرئيس محمد ولد عبد العزيز، تكلم عنه السيدان أكثر منا، من قناة محظرية مسموعة ومرئية، ومن إذاعة القرآن تدريسا وتعليما وتلاوة، ومن طبع المصاحف، واستحداث رواتب دائمة للأئمة، وإنشاء الجامعة الإسلامية في لعيون، وتحديث الأسلوب المحظري بلمسات الحداثة الجامعية كمحظرة أگجوجت، لكن ما على السيدين فهمه، هو التمييز بين التسيير في سبيل الإصلاح والإنجاز، والتسيير ابتغاء تبديد المال العام بوجه من أوجه الفساد المتعددة، وتلك أمور لا يسلم منها إلا من كان على حظ عظيم من الصدق والوفاء والورع، ولعل ذلك ما قصده الوزير في كلامه عن الشائعات والسب الذي لحق بالمدير المتقاعد.
وعلى الرغم من شهادات الرجلين يومها، وتبجيل سنفهم أنه تقية، بثوب الورع المغشوش، وما جادت به العبارات، بمركاتها المسجلة، إمعانا في التزلف والمحاباة، يوم قال كل من مكانه وموقعه: لو خضت بنا البحر، لخضناه معك، ولا يضرك ما فعلت بعد يومك هذا، رغم ذلك كله، كان الوزير يجتر الذكريات الكاذبة، والغارقة في الأيمان الكاذبة، دغدغة لعواطف الحاضرين، فيقول بكل سذاجة، كان القرآن مهمولا، فلا يأتي إلا بآيات قليلة، بعد النوم وقبل الصحو، مخادعا نفسه في ربطها بتلك الفترة، ثم يقحم عن سبق إصرار وترصد، رجلَ الشارع فيقول بكل بلادة: إن عزيز قال لغزواني: لماذا جعلت الرجل على الإذاعة؟ ... فقال له غزواني: أنا طلبت منك تعيينه على الإذاعة وأنت رئيس الجمهورية، فلماذا لا أنفذها وأنا الرئيس؟
الوزير وقد بلغ من العمر عتيا، بعد رحلة حافلة بالعلم والفقه والمبادرات الصارخة بالراديكالية كاستبدال المساجد بالمخابز، لا يتورع عن حث المدير على الكذب وتصديقه وتنبيهه على كلمات المستفزة، والموغلة في الإبهام، كعبارة "وينثرون الأسلاف" وهي عبارة عصية على الفهم لارتجال من ابتدعها وهو يغوص في وعث الخيال بمحض الكذب والافتراء.
وبغض النظر عن الكلام الموغل في الخيال من المدير المتقاعد، كإشارات القرب والعلو، وعدد الأنبياء والرسل، وأنهم لا يتقاعدون (ولا أدري علاقة ذلك بقانون الوظيفة العمومية)، وخدمتهم للرسالات والربوبية، نجده يعرج بمنتهى الذكاء إلى أن القرآن في الإذاعة ليس مهما، بل المهم أن يكون الجميع أهل قرآن: رؤساء، وزراء، جميع العمال، وهو يرنو بذلك إلى تأكيد كذبة يشيعها هو ورهطه أن غزواني من أهل القرآن ، يحفظه ويؤم المصلين، ولكنهم لا يدرون أننا أعلم منهم بغزواني وبتكوينه في جميع مراحله، بما فيهم وسطه الاجتماعي الذي غادره طفلا نكرة في مهده، وعاوده رئيسا محمولا على الرؤوس بما لا علم لهم به إلا ما كان في الخفاء، وهذه حقيقة يدركونها جميعا، لكنهم يخادعون الله في الإقرار بها وما يخادعون إلا أنفسهم وهم يشعرون.
والتناقض الصريح الذي وقع فيه المدير المتقاعد، هو كيف لنا أن نعلم القرآن قبل سماعه، وإذا كان الجميع يعرف القرآن، فما الحاجة إلى ترتيله في الإذاعة؟
وفجأة ودون سابق إنذار، نجد المدير يعْمَه المدير في غيه، كمن لا رقيب عليه، لا من الرحمن ولا من العباد، ليقول: وجاء (غزواني) ليريحنا من "كير" أولئك الذين عادوا القرآن، وعادوا المحظرة، وألغوا المجلس العلمي، وألغوا المسابقة ( وهي بالمناسبة أنشطة استثنائية غير مصنفة بميزانية غير مضبوطة)، فالحمد على مجيء الذي أعاد لهذا المشروع بهاءه (وقاطعه الوزير: ولم يتركوا للقرآن أثرا وهذا محض الحق جزاه الله خيرا)، ثم يتعاونان على الدعاء لغزواني، جعل عمله خالصا لوجه الله، وأن ينصره لمأمورية ثانية (وهذا بيت القصيد).
وهنا، أترك لكم التعليق دون استكشاف سوء الطوية وبهت وزور المتحاورين، لكن كان عليهما ( الوزير الهرم والمدير المتقاعد) أن يلحقا تهمتي عداوة القرآن والمحاظر ببقية التهم المنسوبة للرئيس محمد ولد عبد العزيز، فهي أخطر من جميع التهم والقانون فيها واضح لا يقبل التأويل، ولكن المدعي عليه البية وإلا يقام عليه الحد، وطبيعي أن وزير العدل لن يبذل عناء كبيرا في تعديلهما ولن يدخر جهدا في حمايتهما، لما يجمعهم بينهم من قواسم مشتركة، كالجراءة على الإفك والتلفيق، وممارسة التدليس والتضليل، والتلاعب بالقيم والأخلاق، وتسخير الآي والحديث لخدمة الأهواء والنزوات، فضلا عن الطريقة الابراهيمية، كقناعة عقدية، وكرؤية سياسية.
إذا كان مثل هذا يصدر من عالمين فقيهين، من دعائم النظام الجيوجهوية، والجيوسياسية، فلا تلومنَّ الرئيس ولا الوزير ولا المدير إذا استحسنوا واستصحبوا سرائرهما، وأشاعوا الكذب والتضليل سلوكا مباحا للجميع ومدرسة تهدم القيم والأخلاق في الخواص والنخب قبل العوام والمتعلمين.