بنشاب : في البداية ، ليس من الزيف أن نقول أن ولد الغزواني رجل رشح و دعم ، ليكون رئيسا بغير إرادته ، و ها هو الآن ، و قد إنقضى جل مأموريته يحكم بلدا بدون إرادته كذلك ، هذ ما توصل إليه كثيرون ممن يعرفون ” الرجل ” ، الذي كان يخفي خلف احترام البذلة العسكرية شخصية كرتونية ضعيفة بإمتياز ، و إن كان من باب الإنصاف كحاكم مفعول به ، يليق بشعب ألف الرضوخ و الخنوع و ابتعد عن القيم و الأخلاق و أصبح يمجد النفاق ، و الغدر و كل خوارم المروءة فاستكان الى الضعف و قبل ان يسام خسفا من كل إمعة سافل شاءت الأقدار أن يحكم مجتمعا تعاون المؤثرون فيه على الإثم و العدوان إلا من رحم ربك .
فلا الراعي تورع عن المال العام ، و لا التاجر تورع عن الربا و الاحتكار و جل أهل العلم سكت عن الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر و منهم من أفتى على هوى السلطان الجائر تزلفا و طمعا في لعاعة من الدنيا .و منهم من أقر الباطل بسكوته خوفا او لحاجة في نفس يعقوب .
و أما رؤساء القبائل و أبواق الشرائحية و قادة الأحزاب ففرقوا المجتمع شيعا فشككوه في الثوابت ، و قطعوا أواصر المودة بين فيئاته فانتشرت الفتن و كثر الغدر ، و الكذب و نكث العهد فشاء الله الخبير بعباده أن يبتلينا بحاكم ظالم لنفسه و لغيره غارق في الملذات و المجون تتنازعه الأهواء و تحركه أصابع شيطان مريد شاءت الأقدار أن يولد معه على فراش واحد و يعرف طبعه المنحرف ، وطبيعته الضعيفة فوسوس له بالسوء ، و زين له سوء عمله ودفعه لإتخاذ قرارات لم تكن اكثر من معاول هدم فتحت المنافذ في مفاصل الدولة ليتسرب إليها السوس الذي بات ينخر جسدها المتهالك بلا هوادة .
و من الأكيد أنه سيتبرأ منه كما تبرأ الشيطان من الإنسان الذي إستجاب له و أنحرف كما في قوله تعالى : (( كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ )) .
و كما قيل فالناس باهتماماتهم بحسب الوالي عليهم و إلى هذ ذهب أبو منصور الثعالبي في كتاب ( لطائف المعارف ) حيث يقول : “كان الأغلب على عبد الملك بن مروان حب الشعر، فكان الناس في أيامه يتناشدون الأشعار ويتدارسون أخبار الشعراء، وكان الأغلب على الوليد بن عبد الملك حب البناء واتخاذ المصانع وكان الناس في أيامه يخوضون في رصف الأبنية، ويحرصون على التشييد والتأسيس، وكان الأغلب على سليمان بن عبد الملك حب الطعام والنساء، فكان الناس في أيامه يصفون ألوان الأطعمة ويذكرون أطايبها، ويستكثرون من الحرص على أحاديث النساء، ويتساءلون عن تزوج الحرائر، والاستمتاع بالسراري، ….. إلخ “
فبالنظر الى اهتمام النظام ، و أولوياته ، وواقع الناس في التوجه ، و الذوق ، و الإهتمام … ترى أن الثعالبي تكلم عنا و كأنه يعيش بين ظهرانينا .
نعم اكثر من ثلاث سنوات عجاف انتشر فيها الجوع ، وساءت الاخلاق فتوقفت عجلة النماء و تمايز المجتمع على اساس اللون ، و تنافر على اساس الجهة ، و بان وميض جمر القبيلة من تحت رماد الماضي السحيق بعد ان نفخت فيه افواه الشر الموبوءة من كل الجهات.
و اعترى من تبقى من اصحاب الحجا الجمود امام موجة تعالي اصوات النشاز !، و خلت الساحة للمتاجرين بالدين المشتغلين بالسياسة الجامعين للمال بإستغلال بطون الصيام ودموع اليتامى ، و حزن الأرامل ، و آلام المرضى و حتى بإسم عمارة المساجد .
نعم خلت الساحة لهاؤلاء ، و غيرهم من تجار الدم ، و التهريب و التخريب ، و عاد البارون بعد أن خرج منها خائفا يترقب ، فاستمال بالمال من مال عن الحق ، فكان على حال قارون ، كبرا و فسادا فخرج على القوم الضعاف في زينته كما قال تعالى في محكم كتابه يصف قارون الأصلي قبل الهلاك : (( فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)). و هي نفس أمنيات منظري المأمورية الثالثة المنقلبين على أعقابهم من أمثال الخليل الطيب و و لد محم , ….و غيرهم .
و على خطى البارون جاء الريسبوتين الشافعي ( جاك فوكارت ) عراب الإنقلابات في غرب إفريقيا ، و خبير الطرق الملتوية في الساحل ، و لكنه أي الشافعي غسل من المال المشبوه و راكم منه على حساب مصائر الشعوب ما أسال لعاب أصحاب الأقلام او الفتوى المدفوعة الثمن ، فدافع عنه الصحفي ” النافظ ” و مدحه أكبر علماء الرقية ، و الذي مدح قبله شيخ الرضى آكل أموال الناس بالباطل .
إذا مجتمعنا اليوم فقد البوصلة و لم يعد يفهم تماما أين يتجه ، ولا يقدر في نفس الوقت خطورة الموقف ، ويعيش مرحلة من الخواء الروحي ، و النضوب الفكري ، لم يسبق لها مثيل ، و يرسم لوحة مشوهة و لا تعكس تاريخه ، و لا قيمه لذلك انجرف خلف سيل المال و الإعلام المسموم الموجه فطفى الزبد و طغى على الصورة ، فقادنا العجز فلم نعد قادرين على الإستفادة مما نحمل من مقدرات تماما كما قال الشاعر :
كالعيس في البيداء يقتلها الظما و الماء فوق ظهورها محمول
فطمع ضعيف النفس و قليل العقل في تصدر المشهد فدخلنا عصر الرويبضة من أوسع الأبواب فتصدر المشهد ” حمزه ابراين ” ليداوي هموم المجتمع فانتج عقله المستنير أغنية ” أهيه بنضية ” و برز الكاتب الكبير الحسن لبات الذي حمل على عاتقه هموم الشعب فألف و صنف فاثرى المكتبة الوطنية بمصنف فريد تحت مسمى ” عقلية ألمودات ” فكان مستوى العالم ، و الولي الصالح ، و الكاتب النابه ، و الفنان المعاصر صاحب الرسالة ، لا يقل عن مستوى نظام كله عورة ، و عورة رئيسه مشهورة في اندية المنكر .
هذ الحال البئيس و البلاء العظيم يعيشه مجتمع تخلق باخلاق الذل ، فلا يزال يضحك في وجه الجلاد ، و ينظر الى البلاء ، بنوع من السخرية لانه لا يجيد فهم التاريخ و لا مآلات ما يعيشه من سخط الله .
يقول ابن خلدون في مثل هؤلاء : (إذا رأيت الناس يكثرون الكلام المضحك وقت الكوارث فاعلم ان الفقر قد أقبع عليهم وهم قوم بهم غفله واستعباد ومهانة ).
لان عظمة الله وقدرته تقتضي التضرع له لرفع البلاء لقوله تعالى : ( فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون ) و الحاكم الظالم من أعظم البلاء فما بالك بحاكم ظالم بارادة غيره من الظالمين .
إذن نحن الآن نعيش المرحلة الخامسة على سلم بن خلدون ، و هي المرحلة الأخيرة و، تفضي إلى انهيار الدولة. فبينما تتسم الفترة الأولى بالنصر والتأسيس، تشتهر المرحلة الأخيرة بالانغماس في الشهوات والملذات وإشباع الرغبات .
ولكن هذه المرحلة الحاسمة جعلت الغزواني الضعيف الفاقد للأهلية يفهم في الأخير بعد أن تمزق كبريائه و سقطت هيبته فامتلأت آذانه باصوات السخط وبذيء القول اين ما حل او ارتحل ليستكين في الاخير الى راي ” احويرثي ” فيعود الى ” خلوته ” و يعتزل في القصر الرمادي و يكتفي بالتغريد من خارج سرب الصلاح الذي اعتاد المنافقون وصفه به في مجتمع تتحكم فيه الثقافة الثيوقراطية .
هذا الاعتزال الاخير للرعية و الابتعاد عن الشعب وهمومه و اللقاءات المفتوحة و التي لم يتعود عليها ككائن ليلي يفضل الهدوء و اللقاءات الثنائية الخاصة ، و التي لا تحتاج الى كاريزما و لا وعود و لا تعهدات اكثر من عمليات ربط فني يقوم بها القواد و المخنث و قد تنتهي بتكاليف طفيفة في متناول البخيل كظرف مغلق على مبلغ زهيد يكفي فقط لترميم اعطال سيارة كما هو الحال مع ” النوه ” التي لم يبقى لها أي شيء بعد العملية المشهورة .
لذلك الغزواني يفكر بجدية منقطعة النظير بالتخلي عن الحكم و الخروج نهائيا من مسؤولية لا قبل له بتحملها و يرى حسب المقربين منه بانه اصبح رئيسا بدون ارادته ، و يريد فقط ان يخرج بارادته لذلك لم تكن هذه المامورية لبناء دولة او مواصلة ما تم انجازه من قبل .
بل كانت للسيطرة على المقدرات الاقتصادية و نهبها لتاسيس نظام يضمن له الخروج الآمن ليقلع مع ” منت الداه ” اقتصاديا بما حول و جمع و كدس و كنز و في نفس الوقت يكون ” الشيطان المريد ” الملقب أحويرثي قد أمن المشروع السياسي القادم و أغلغه بإحكام في وجه الرئيس السابق محمد عبد العزيز .
هذه الرسالة فهمها الجميع إبتداء بالبارون و الريسبوتين و غيرهم ، و لكن الطمع في الكعكة و الحضور في المشهد لرسم السيناريو القادم و الذي سيفرز نظام 2024 لدولة الغاز فك ألغاز الكثير من فحول المنافقين ممن رفعوا شعار الإصلاح و القيم أيام عشرينية الجمر و التحقوا بالحركة التصحيحية بعدها و سيروا العشرية و اصبحوا اغنياء و رجال سياسة فانقلبوا على اعقابهم و غيرو مواقفهم ليظهروا في صورة المنافق الخالص ، فصدق فيهم قوله تعالى : (( وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فلما آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعقَبَهُم نِفاقًا في قُلوبِهِم إِلى يَومِ يَلقَونَهُ بِما أَخلَفُوا اللَّـهَ ما وَعَدوهُ وَبِما كانوا يَكذِبونَ )) وهذ أيضا هو حال الاوجه السياسية الصانعة لقرارات مختلف الطيف السياسي الذي تهافت و تسابق و تساقط بين يدي المتنافسين الأساسيين على تركة الرئيس الضعيف و هم البارون من جهة ، و ولد أحويرثي من جهة أخرى .
كل يقدم الولاء و فروض الطاعة و يقدم مشروعه كبديل على مائدة البارون أو الشيطان .
بالفعل من هنا احس ولد احويرثي بالخلل لان النظام اصبح بلا معارضة و المعارضة ايضا احست بالخلل لانها لم تتجاوز بعد عتبة باب الاغلبية و لكنها لم تقنط من مشروع تعمل جادة لتحقيقه، و ان كان ما تحقق منه هو انها اصبحت معلقة .
فلاغلبية ترى ان المعارضة يجب ان تبقى في مربعها لتسويق النظام دوليا و لكن بدون تأثير داخلي يؤثر على الساحة الداخلية فالمهم عند ” احويرثي ” ان لا تترك الفراغ حتى لا تتشكل معارضة بديلة .
و لكن المشكلة ان الشعب الذي فقد الامل و اصبح يرى انها اي المعارضة لم تعد اكثر من جسر عبور يستخدمه النظام لتجاوز المرحلة الحرجة التي تفرض اكراهاتها احيانا ترك بعض البيادق المعادية تتقدم الى مواقع لا تستحقها و لكنها تشغلها مؤقتا قبل المعارضة البديلة تحت قيادة الرئيس السابق ، و التي تسابق الزمن لترتب اوراقها .
فقط ” احويرثي ” يريد مزيدا من الوقت الى ان يرتب النظام القمعي سيناريو التعامل مع الجميع باحكام .
و لكن البارون في برجه العاجي يراقب الجميع فقد طالت اذنه و اصبح يرى بكثير من العيون المفتوحة داخل المؤسسات الامنية و له يد ضاربة خارج الحدود و حليف اقليمي استراتيجي و له حساباته المالية و السياسية سمها ما شئت .
اما ولد الغزواني فلا ينتظر الا لحظة تامين الطريق و اشعاره بوقت المغادرة .
و لكن الجميع يؤرقه أمر واحد و هو ما حقيقة ما يدور في ذهن ولد عبد العزيز و كيف سيكون تأثير تحالفه السياسي على إعادة رسم الخارطة السياسية للتنافس ، وهل سيكون للمتغيرات الإقليمية و الدولية المتسارعة من حولنا مفاجئة أخرى تقلب الموازين في دولة ” موز ” تخطط على المستوى السياسي و تهمل دائما الجوانب الإستراتيجة و التي تاخذ بعين الإعتبار تلك المتغيرات التي تفرض بأزماتها خرائط سياسية لها محددات و تجليات قد تفرض الإستجابة لها أمورا لم تكن في الحسبان .
الكاتب / عبد الودود عيلال.