بنشاب : لم يحصل لي يوما شرف معرفة عنوان بريد القصر ، ولم أسلك في يوم من الأيام طريقا تؤدي إليه إلا هربا من زحام المرور وأنا في طريقي إلى قلب المدينة ، كغيري من عشرات الألوف من البسطاء أمثالي ممن يلبطون في هذه الحياة كما تلبط السمكة في اليابسة ، يبحثون عن قوتهم مستغرقين في همومهم الخاصة ، وإن كان لهم إلتزام مبدئي تجاه هذا الوطن ، ولهم في حنايا ضلوعهم جوانح ـ وإن بلله اليأس ـ فهي خفاقة بحب الخير والمجد لموريتانيا ؛ بماضيها وحاضرها وأرضها وسمائها ونجومها ومائها وهوائها وشجرها وحجرها وساستها وعامة شعبها.
وإني لألتمس العفو من الجميع ـ وعلى رأسهم السلطات العمومية ـ عن جرمي بادئ ذي بدء لعدم وضعي اليد على بريد أهم مؤسسة في هذا البلد ، وأستميحهم عذرا في إمتحان صبرهم قليلا لأني سأبسط عبر هذه الرسالة بعض الوجع العام ، والهم الوطني ، وخيبة الأمل التي لا تنفك تنهش في وجداننا الجمعوي كحشرة عنيدة بعد أزيد من ستة عقود من إستقلال بلدنا الحبيب عن المستعمر الفرنسي.
قد ترون معاشر القراء في خيبة الأمل شر مطلق ، لكنها ليست كذلك على الأقل إذا نظرنا لها من زاوية وجهة نظر الشاعر الفلسطيني الكبير مريد البرغوثي حيث يقول: (الخيبة تصيب من يود استعادة ماضيه ، لكنها لا تصيب من لا ماضي له) وتلك قصة أخرى.
إن القاسم المشترك ـ من وجهة نظرنا المتواضعة ـ بين أنظمتنا المتعاقبة التي حكمتنا على اختلاف أنواعها ومشاربها ـ مدنية وعسكرية ـ هو اعتمادها بكل أسف في الغالب على أنصاف الحلول ، والهروب من الحسم ؛ لذا ظلت أبرز مشاكلنا المحورية تراوح مكانها ، رغم أن بعضها جوهري ؛ كهوية البلد ، والبعض الآخر ملح ومصيري ؛ كعملية التنمية الشاملة ، وتحرير العقول من التخلف والرواسب ، وإطلاق الطاقات .
إن بعض المشاكل لخطورتها لا تكفي في مواجهتها أنصاف الحلول ، وأنصاف المواقف ، ولا تكرار التجارب السابقة والتقليد الأعمى ، لقد كان الزعيم الراحل جمال عبد الناصر رحمه الله يقول محقا : (الحلول الحقيقية لمشاكل الناس لا يمكن أن تكون بتكرار تجارب الآخرين) .
الفيلسوف أفلاطون يقول : (الحاكم كالنهر العظيم تستمد منه الأنهار الصغار ، فإن كان عذبا عذبت ، وإن كان مالحا ملحت) ؛ هذه المقولة لا تبعث اليوم في أنفسنا الطمأنينة بحال من الأحوال ، فما نراه من فساد في الإدارة ، وسوء في التسيير ، وتردي في تفكير أصحاب الشأن العام ، وتخبط في مشاريع الحكومة الهزيلة يجعلنا في وضع لا نحسد عليه حقا ، وخاصة منا أولئك الغيورون على مستقبل بلدهم والذين توسموا خيرا في الرئيس الحالي ، ولا أظنني إلا أحدهم.
لقد تم استغلال جائحة كورونا ـ على جسامتها ـ إعلاميا بشكل مكثف إن لم نقل مفرط لتحجيم سقف الطموحات لدى المواطن ، والتنصل من الكثير من الالتزامات الانتخابية ، واليوم يتم التحضير للاستفادة أيضا من تداعيات الحرب في أوربا الشرقية ، وغدا عندما ينجلي زكام وسعال كوفيد ، وغبار معارك أوكرانيا بتنا نخشى أن يرفع مسئولونا أيديهم بالدعاء تضرعا وخيفة لتأتي مأساة أخرى أو كارثة عالمية لتكون شماعة جديدة يعلقون عليها فشلهم في إنجاز أي شيء يذكر في مجال التنمية ، وتحسين ظروف المواطن الذي يعيش بين مطرقة الغلاء وسندان الجفاف ، وانعدام الأمن الغذائي ، وانسداد كل آفاق المستقبل.
إن استدرار عطف الطبيعة ، والبحث عن الكوارث ، ربما يجعلنا نحن أيضا نردد مع الأديب اللامع نجيب محفوظ مقولته الشهيرة : (إذا لم يكن من الكارثة بد فمن الرحمة أن تقع سريعا ) ، زد على كل ذلك أن توقع الكارثة وانتظارها ربما يكون أشد هولا من وقوعها في حد ذاته كما يقال.
يضاف إلى كل ذلك أن النظام الحالي حريص بهمة شديدة على أن يجمع حوله كل أباطرة الفساد من الحقبتين ؛ "الطائعية" ، و"العزيزية" ، ويسير الأمور بذات العقلية ، ويبدو أنه لا يصغي لنصح المخلصين ولا رأي العقلاء ، يقول مثل تركي قديم (من قبل النصيحة اجتاز الجبل ، ومن لم يقبلها أخطأ طريقه حتى في السهل) ، ويضيف المثل العربي (من شاور أهل النصيحة سلم من الفضيحة).
لقد مل المواطن من تدوير المفسدين ، وحروب الفساد العبثية التي يتم بواسطتها دغدغة مشاعر البسطاء لينجلي غبارها عن ضحايا قلائل يتم انتقاؤهم بعناية فائقة ، ويتم تلمس أقرب مخرج لهم بكل الطرق إلا طريق العدالة ، والأكثرية لا تسأل عما تفعل مطلقا ، يقول مثل روسي قديم (برفقة العدالة تجتاز العالم ، وبرفقة الظلم لا تتجاوز عتبة بيتك) .
صحيح أن الكاتب اللبناني العبقري الراحل جبران خليل جبران كان يقول إن (الرحمة نصف العدالة) ولسنا ضد ذلك ، ولكن أليس من حقنا أن نتساءل اليوم أين هو النصف الآخر؟.
إن حال البلد الراهن لا يبعث بالارتياح مطلقا ، لا توجد رؤية متبصرة من النظام وأغلبيته للتعاطي مع المشاكل المطروحة وهي كثيرة وخطيرة ، ولا توجد أهداف واضحة مفيدة وقابلة للتحقق ، لذا أراهن أنهم لن يكونوا سعداء مطلقا ، ولن يحالفهم الحظ ، يقول الأديب الألماني غوته (وضوح الغاية عند الإنسان يسبب له الاطمئنان ويؤدي إلى السعادة) ، ويقول ديل كارنيجي (بدون هدف ستمر الأيام عبثا ، وتنتهي كما تنتهي بلا تمييز) .
إن النخبة المثقفة والمعارضة أيضا يلتزمون الصمت المطبق في غالبيتهم ، لذا أضحوا شركاء في الجرم ، والمواطن ضحية بين هذه الأطراف ، يقول الزعيم المناضل مارتن لوثر كينغ : (المصيبة ليست في ظلم الأشرار ، بل في صمت الأخيار) .
ختاما لا يسعنا إلا أن نقول لكل من خذل أحلام هذا الشعب وتهاون في الأمانة ، وزرع في وجدانه الخيبة بسوء تدبيره وتسييره لشأنه العام ، إننا نردد لكم مع الكاتبة المغربية مليكة أوفقير ابنة الجنرال الراحل محمد أوفقير (لقد دمرتم لنا حياتنا ، لكن العدالة لابد أن تنتقم لنا).
محمد محمود إسلم عبد الله