بنشاب: إن من أغرب ما يلاحظ الملاحظ منذ بعض الوقت تغيرا جذريا في سلوك بعض الحيوانات في ولاية الترارزة، ولم تتح لي الفرصة للتأكد من انسحابه على باقي ولايات الوطن العزيز، وما أحجوه إلا كذلك لأن تصرف العجماوات غالبا ما تمليه دوافع الغريزة ولا علاقة له بالعقل، والغرائز لا تتغير من مكان إلى مكان لأنها مركوزة في جوهر الكائن.
وبما أني لست خبيرا في نفسيات الحيوانات ولا علم لي إطلاقا بالنواميس التي تتحكم في تصرفها وسلوكها فسأكتفي هنا بأن أصف لكم بعض الجزئيات التي شاهدتها بارزة للعيان تاركا لمن هو أقدر بالأمر مهمة تفسيرها.
أول هذه الملاحظات هو الاستقلال التام والانفصام الكامل بين جنسي الغنم: الضأن والمعز وهما جنسان عاشا قرونا عديدة في وئام كامل واجتازا الشدائد والمحن وعاشا أوقات الفرح والخصب معا يأكلان نفس الكلإ ويشربان من نفس الحوض على أساس مثالي من الاحترام المتبادل والتسامح وقبول الآخر حتى أنهما اعتبرا في الزكاة جنسا واحدا.
أما اليوم فقد انفصم كل ذلك وسار كل من الجنسين على دربه، ويخيل إلي أن المبادرة جاءت من جنس المعز إذ يبدو أنه تنامى عنده شعور عظيم بالتهوية ورغبة جامحة في إثبات النفس تجلت في العزوف عن مصاحبة الضأن والركون إلى نمط من العيش يشابه إلى بعيد نمط عيش الإبل، ولا يستبعد أن تثير المعز أواصر قرابة بعيدة بينها وبين الإبل لتأصيل هذا السلوك الجديد.
والملاحظة الثانية هي القرار الذي اتخذه جنس البقر في أن يخصص النهار كله للشرب والراحة فيظل باركا في معاطن الآبار تحت حمام الشمس حتى إذا غربت الشمس غروبا كليا سار على بكرة أبيه إلى حقول الكلإ والحشيش ويبيت فيها راتعا إلى أن يذر قرب الشمس فيكر راجعا إلى البئر، وما كان سلوك البقر كذلك في القديم إذ كان يظل راتعا في العشب إلى أن تزول الشمس فيرد إلى البئر فإذا نهل منها عاد إلى المرعى وإذا كانت له راحة فإنما يفعلها في الليل في الخلا، لا نهارا في الملا.
والظاهرة الثالثة هي عزوف الحمير عن التمرغ في الأماكن الحزنة فما عهدنا الغبرة منذ أن كان عير يعهد التمرغ إلا في الأماكن من نوع القيعان وشبهها فيثير بها غبارا شبهه العرب بالنار المشعلة. كان ذلك في الزمن القديم، أما اليوم فإن حمير ولاية الترارزة- على الأقل- لا يرضون بالتمرغ على قنن الرمال الحمراء يصعدنها صعودا فيمكثن فيها ساعات طويلة من النهار وكأنهن يجدن في الجلوس فوقها متعة لا توصف، ثم يتمرغن فوقها تمرغا لا يحدث أي غبار ولا يعلق بجلودهن منه أي وسخ فكأنهن أدركن فضل سلوكهن الجديد على سلوكهن القديم!.
وأما الظاهرة الرابعة- وأعجب لها إن كنت تعجب- فهي المصالحة التامة بين الفئران والقطط وهما العدوان اللدودان واللذان كان يضرب بهما المثل في العداوة المتجذرة، وأما أنهما أصبحا صديقين لا الفأر يخاف القط ولا القط يرغب في أكل الفأر هذا ما أكده لي عدد من تجار السقط كانوا يعانون من عبث الفئران في بضاعتهم فربطوا داخل حوانيتهم قططا لترد عنهم غائلة الفئران، وكم كانت دهشتهم عندما عاينوا القط وهو يمازح الفأر ويضاحكه، والفأر يمر بين رجلي القط وكأنه يمر بين رجلي أمه وأبيه، بسلم مطلق بينهما لا مراء فيه.
لقد وقع بينهما صلح لا ندري متى أبرماه ولكنا نشاهد آثار بنوده ظاهرة، ولا ندري هل هي سلم مرحلية تكتيكية أم جاءت على أساس مصالح مشتركة بينهما، الله أعلم.
والملاحظة الخامسة هي الشعور العميق بالتضامن بين جنس الكلاب حتى أنه إذا كان في الحارة الواحدة عدة كلاب فإنك تراهن مجتمعات في إطار منظم كأنما يساقون إلى حفلة أو إلى مهرجان مهم وهذا شيء ما كان معروفا في القديم إذ كانت كلاب الحي دائما يحمل بعضها على بعض ويوسعه عضا ونهشا لا مكان عندهن للتضامن ولا ينصر بعضهن بعضا، حسب كل واحد منهن خويصة نفسه والدفاع عن ربه. أما ما نشاهده اليوم عندهن فإنه أشبه شيء بالحس الانتمائي والنقابي…
فانظروا يا أولي الألباب إلى ما وصفت لكم هنا وتعجبوا منه وانظروا هل هي مؤشرات لظاهرة أكبر وأعمق مازالت تحجبها عنا حجب المألوفات، أم هي ظواهر عابرة اقتضتها ضرورة التكيف مع آثار التغيير المناخي الذي يعيشه كوكب الأرض أو لها سبب آخر، الله اعلم.
الاستاذ محمد فال ولد عبد اللطيف.