شبَّ حريق في جزء من حي لمغيطي الواقع في البرزخ الفاصل بين مقاطعتي توجنين ودار النعيم بالقرب من تل الزعتر وذلك مساء الأحد 8 مارس يوم عيد المرأة، يعدُ الحي حضنا نائيا لفقراء العاصمة تتلاصق فيه منازلهم الرثة والضيقة. زرت أكوام المنازل المحترقة مساء الاثنين 9 مارس في حدود السادسة مساءً متنكرا في فضول صحفي أعزل من الخبرة ولا يجيد طرح الأسئلة على الغرباء، وضعت عطرا جذابا قبل أن أذهب حتى تكون رائحتي ملفتة للانتباه رفقة كاميرا هاتفي سامسونغ جي ون. فوق رماد بيوت الصفيح المحترقة استنشقت مع موسى رائحة الأسى وحدثني عن الحريق الذي التهم متاعهم القليل من الدنيا وكيف باتوا ليلتهم يتنفسون الدخان وكيف استقبل التشرد مع عشرات الأسر ومن وقف بجانبهم ؟
لم أكن متحمسا لزيارة دار النعيم لما يشاع عنها من انفلات أمني ولكوني لا اهتدي في أزقتها رغم أنني أدعو الله دائما أن أكون من سكانها، لكن في العالم الآخر. لبستُ ثيابي وكورت لثامي حول رأسي ثم ركبت سيارة أجرة من توجنين متآكلة القسمات دلني صاحبها على منعرج حي لمغيطي الواقع قرب مزارع من النخيل متلاصقة الرؤوس. نزلت قرب بائع برتقال يضع سماعة رأس نزعها لما سألته عن موقع الحريق. سلكت طريقا فسيحا يضج بحركة السيارات والمشاة والباعة والدكاكين ومنازل إسمنتية لا توحي بالفاقة، كلما زاد توغلي في الشارع كلما تكشفت الأكواخ المكدسة فوق أرض منحنية. سألت سيدة أربعينية عن وجهتي فحثتني على مواصلة المشي لبلوغها. اختلطت رائحة السمك بصوت الفنانة أليسا وبائع الرصيد وأنا اقترب من تفرع طرق يحاول بصعوبة أن يكون سوقا شعبيا. سألت شابا يدير محلا عنوانه "بقالة شباب كوبني النموذجية" فأرشدني بالاستدارة والانحراف يسارا، يبدو أنني كنت تائها وسأضيع نحو طريق عزيز. سلكت طريقا ترابيا أنظف من الأول ربما لقلة ما يتبقى عن سكانه من فضلات الطعام، تحيط به منازل متلاصقة من صفائح الزنك والأخشاب تتخللها بيوت إسمنتية بعدد الشعر الأبيض المتناثر في رأس أربعيني بدأ يتفطن لشيب متباعد يغزو رأسه الأسود. ابتلع الشارع الرملي خطواتي وعندما سألت طفلا يداعب أخته الصغيرة قرب حمام من صفائح الزنك بلا سقف قال لي عد أدراجك وانعطف يسارا جهة المسجد المشيد من الألواح الخشبية ثم انعطف يمينا وستصل المكان. لما دنوت من المسجد بدأت أشم رائحة الشواء، خطوات قليلة ووجدت أمامي بقعة سوداء تتوسطها خيام بيضاء صغيرة كخيام باعة لبن الإبل على جنبات الطرق الطويلة. أطفال ونساء ورجال يرمقون بأعين متعبة أشلاء الأمتعة المحترقة وقد كومت فوق بعضها البعض، كادت قدمي ترتطم بجثة كبش مشوية ظننتها بقايا غداء أرسلته الحكومة للأسر المتضررة لكنه لم يكن سوى كبش أماته الحريق إضافة إلى كبش آخر كانت أمعائه ذائبة في التراب الأسود رفقة بقايا الملابس والأواني الصدئة.
تفرست ملامح المتجمهرين داخل الخيام وخارجها حتى أعثر على من يمدني بمعلومات أرحب عن الحريق دون أن أضايقه بتدخل ربما يجده مزعجا ولا إنساني. رأيت رجلا بدت نظراته مبتسمة رغم وعثاء التعب على محياة وملابسه، تجاذبت معه أطراف الأسئلة وحدثني قائلا:
أنا موسى باه من مواليد 1982 انحدر من مدينة روصو وأب لثلاثة أطفال، تسربت من المدرسة سنة 1997 في السادس ابتدائي. اشتغلت لحاما وانضممت لأخوتي هنا في حي لمغيطي الذين احترقت منازلهم أيضا إضافة لمتاع أخينا الخامس الذي يعمل في نواذيبُ وكان يتجهز لعرسه في شهر أبريل. كل شيء احترق، الأسرَّة والأواني وأوراقنا المدنية وأوراق ملكية الأرض(بادج) ومدخراتنا المالية القليلة وصندوق والدتي وملابسنا والتلفاز، لم يتبق سوى الرماد وصفائح الزنك والأغراض المعدنية الصدئة. بتنا ليلة البارحة في خيمة صغيرة وسط أكوام الرماد والدخان أعطاها الجيران لنا وأشار بأصبعه لمنزل في الأطراف يحتوي بيوتا إسمنتية، كما أن الجيران هم الذين زودونا بالطعام، نعاني شحا في المياه بسبب نفاد الخزان القريب لكثرة الطلب، نشتري برميل الماء ب 500 أوقية قديمة وفي الأوقات البارد يصل 300 أوقية قديمة. ممثلو الدولة جاءوا جميعا بشحمهم ولحمهم من أول وهلة لكنهم اكتفوا بالكلام الجميل وسط آثار الدخان وتسجيلنا، لحد الآن لم تقدم لنا جهة رسمية خياما وأغطية وطعام، البركة في مساعدة الجيران والمعارف. بلا كهرباء وماء يسكن المتضررون وأطفالهم خياما صغيرة تزكمها رائحة الرماد. أطفال موسى لم يدخلوا المدرسة بعد لصغر سنهم، توجد مدرسة في الأطراف قالي لي موسى، لكن في الأفق المقابل البيوت تلتصق بها البيوت، تحفها أسلاك كهربائية كعروق الأشجار تبرز وتختفي بين الرمال، لم أر علما يرفرف على منشأة حكومية في الحيز الضئيل الذي تجولت فيه أقدامي. بدا موسى متماسكا وكثير الابتهاج رغم البأساء والضراء التي مسته ولم يكن محرجا من التقاط صورة منه بل كان متحمسا لإعطاء كل المعلومات التي بحوزته، وينبش الأرض أمامي مخرجا بقايا الملابس وقطعا نقدية ابتسم عندما اكتشف أنها من العملة القديمة. ربما شم موسى في أسئلتي رائحة ما قد توصل معاناته للجهات العليا، وهو ما أشعرني بالإحراج نحوه. سألته ماذا تريد أن تقول للرئيس لو أنه سيسمعك؟ أجابني باقتضاب: "سأخبره بأن الدولة لم تقدم لنا شيئا حتى الآن سوى الكلام المعسول ونحن في حالة تشرد مفاجئ.."
عندما بدأت أضواء الغروب تعتمل في السماء بدأت أتهيأ للذهاب مخافة التعرض للنشل في أزقة لا أعرف مآلاتها رغم رغبتي في الحديث مع متضرر آخر، ولو أن أكوام الحريق والخيام الصغيرة ونظرات العائلات المتضررة تُغني عن الكلام. انزويت حتى التقط صور أخرى، فقال لي طفل صغير: "الشرطة لا تحب التقاط الصور هنا". شيعني موسى مودعا عندما رآني أذهب وقد انشغل عني في أحاديث جانبية مع الجيران. طوال مكوثي هناك وقد دام حوالي 45 دقيقة لم أر وجودا رسميا أو خيريا. أعطاني موسى رقم هاتفه راجيا مني مساعدته في إخراج أوراقه المدنية وإيصال أصوات جيرانه دون أن يعرف أنني مجرد فضولي عابر لم يكن يتصور أن مدينة نواكشوط تخفي كل هذا البؤس وراء ظهرها المنحني!
خرجتُ وأنا أشعر بالشفقة، ليس على هؤلاء الفقراء وحسب، بل على الذين تحملوا شؤونهم وينامون بكل هذه البساطة وأطفال صغار ينامون بين الرماد وبقايا روائح الدخان، يشربون بصعوبة ويأكلون بصعوبة ويستحمون بصعوبة. فمتى يشعر المواطن القابع في أطراف الحياة بدفئ الخدمات والوطن؟ ومتى يقذف اليم تابوت هذا الضياع على رأي سارق النار محمد ولد الطالب؟.
الساعة 23:56 وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
خالد الفاظل