قياس الزمن....

أربعاء, 17/12/2025 - 23:07

بنشاب : ليس كلُّ زمنٍ يُقاس بالسنين، ولا كلُّ حكمٍ يُوزن بعدد الخُطب والبيانات؛ فثمّة عهودٌ تُقاس بما أزاحت من ظلامٍ متراكم، وبما أحدثته من انتقالٍ صامتٍ في بنية الدولة ووعي المجتمع. وتلك هي العشرية التي اقترنت باسم الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز؛ عشريةٌ لم تكن نشيدَ ادّعاء، بل سِفْرَ وقائع، ولا مرآةَ تزويق، بل سجلَّ انتقالٍ من حالٍ إلى حال، ومن دولةٍ مُستباحة الأطراف إلى كيانٍ يُحسَب له حساب.

قبل تلك العشرية، كان جواز السفر الموريتاني سلعةً سائبة، وبطاقة التعريف هويةً رخوة، تُشترى كما تُشترى المتاع الرخيص في أسواق العابرين. فجاء زمنُ التوثيق المُحصَّن، وانغلق بابُ العبث بالهوية، وصارت الوثيقة عنوانَ سيادة لا ورقةَ تهريب.

قبلها، كان الجيش ظلًّا بلا مخالب، وهيبةً بلا عُدّة، فجاءت مرحلةُ بناء القوة لا استعراضها، وتحصين الحدود لا استنزاف الداخل، فانكمش الإرهاب بعد أن كان يضرب العاصمة والأطراف، وتحوّلت الدولة من هدفٍ سهل إلى معادلةٍ صعبة.

قبلها، كانت الجامعة الإسلامية غائبةً عن أرضٍ عُرفت بالمحاظر، فجاء الجمع بين الأصالة والمؤسسة، بين اللوح والكرسي، وتحوّل العلم من عزلةٍ تقليدية إلى نظامٍ جامع. وقبلها كانت جامعةٌ واحدة، فصار التعدّد واقعًا، وصار التكوين الطبي محليًّا بعد أن كان حلمًا مؤجَّلًا، وتخرّج الأطباء من أرضهم لا من منافي الدراسة.

قبلها، كانت الكلمة تُكتب من تحت الطاولة، فجاء اتساع المنابر، وتعدّدت القنوات، ولم يعد الصوت حكرًا على نشرةٍ رسمية واحدة. وقبلها، كان الإعلام طريقًا ذا اتجاه واحد، فصار فضاءً متعدد الأصوات، تتقاطع فيه الآراء وتتنافس.

قبلها، كانت الأحياء العشوائية قدرًا صامتًا، والماء والكهرباء امتيازًا نادرًا، فجاء التمديد والبسط، وشُقّت الطرق المعبّدة بين الولايات والمقاطعات، وارتفعت الأرصفة، وأُضيئت الشوارع، ونُصبت الإشارات حيث كان التيه مرشدًا. وربط الخطُّ الكهربائي نواكشوط بنواذيبو، فانكسر العزل الطاقوي بعد طول انقطاع.

قبلها، لم يكن للدولة جناحٌ جويّ، فجاءت شركة الطيران عنوان حضور، ولم يكن مطارٌ بمواصفات عالمية، فصار الباب مشرعًا على العالم. ولم يكن قصرٌ للمؤتمرات، فصار للبلاد فضاءٌ يليق بالقمم الكبرى والصغرى، التي لم تكن تُنظَّم، فغدت واقعًا.

قبلها، كانت المستشفيات تُعدّ على الأصابع، فجاء التوسّع النوعي: نواذيبو، كيفة، كيهيدي، الصداقة، القلب، الأمومة والطفولة، السرطان، الفيروسات، الكسور والحروق؛ لا أسماء في الهواء، بل مرافق تخفف ثقل الألم عن الناس.

قبلها، كانت الوزارات في مبانٍ مستأجرة، فصار للدولة بيتها. وكانت السيارات الحكومية بيد الأطفال في الشوارع، فاستعاد النظام هيبته. ولم تكن هناك مدرسة للأشغال العمومية، فجاء التكوين حيث كانت الفجوة.

قبلها، لم نسمع «صُنع في موريتانيا»، فجاءت المصانع: ملابس الجيش، التمور، الألبان؛ ولم نسمع بالطاقة الشمسية والهوائية، فدخلت المعجم التنموي لا كشعارٍ بل كخيار. ولم يكن الأرز المحلي ذا جودة، فصار منافسًا.

قبلها، لم تكن نبيكة لحواش، ولا الشامي، ولا بنشاب، ولا ترمسة، ولا بورات، ولا مثلث الأمل؛ فجاء العمران ليبدّل جغرافيا الفقر. ولم تكن الميزانية تبلغ سبعمائة مليار أوقية، فبلغتها. ولم يكن سدّ وادي سكليل، فكان.

قبلها، لم تكن قناة للمحظرة ولا إذاعة للقرآن، فجاء الصوتان معًا؛ ولم يكن المصحف الموريتاني، فصار علامة توثيقٍ وروح. ولم يكن تكريم أبطال المقاومة، فاستُعيدت الذاكرة، وسُمّيت الشوارع، وحضر المختار ولد داداه والمقاومة في الفضاء العام. ولم يكن مجسّم قبة الصخرة، فصار رمزًا في مواجهة النسيان.

قبلها، كانت المدن القديمة منسيّة، فاستُحضرت، وكانت السفارات بلا مقرات، فصار للسيادة عنوان. ولم تكن البلاد تُستشار، وكانت التدخلات الخارجية سافرة، فاستقام ميزان القرار، وصارت الوساطات العربية والإفريقية تُدار من نواكشوط وتُكلَّل بالنجاح.

كلُّ ذلك لم يكن معجزةً لغوية، بل تحوّلًا تراكميًّا، لا يخلو من نقصٍ بشريّ، ولا يدّعي كمالًا أسطوريًّا، لكنه يثبت أن الدولة حين تُدار بإرادة، تُغيّر مسارها ولو ببطءٍ محسوب.

تلك هي عشرية الإنجازات؛ ليست سرديةَ تمجيدٍ أعمى، ولا نشرةَ تبرير، بل قراءةٌ في انتقال الدولة من الهشاشة إلى التماسك، ومن التبعية إلى المبادرة. واسم محمد ولد عبد العزيز فيها ليس نقشًا على حجر، بل علامةُ زمنٍ تحرّك فيه الساكن، وتراجع فيه العبث، واتّسعت فيه مساحات الأمل.
قد يختلف الناس في التقدير، لكن الوقائع—حين تُروى بلا صخب—تُريح النفس، لأن الحقيقة، إذا قيلت بلسانٍ صبور، كانت أبلغ من كل ضجيج.