
بنشاب : في سفرِ الرجال الذين ظلّت أقوالهم سيوفًا لا تُغمد، وأفعالهم أعمدةً لا تميل، تتجلّى سيرةُ الشهمِ الذي لم يُبدّل، وظلّ يحفظُ العهدَ في زمنٍ تناثرَت فيه الوعود؛ يقفُ كجذعِ الطَلْحِ في وجه الريح، فيما تتقافزُ حولهُ وجوهٌ بدّلت جلودها وأدارَت ظهرها يوم احتدمت المحنة»**
في دهاليزِ الزمن، حيث يختلطُ الغبارُ بالصدى، وتتعانقُ الخطواتُ على طرقٍ لا يعرف آخرها من أوّلها،
تنبثقُ وجوهٌ لا تبهت، ويظهر رجالٌ يختلف جوهرهم عن ضجيج المراحل.
وهناك، في مضارب الدهر، يصطفُّ صاحبُ العهد إلى جانب قيمه،
ويظلّ الوفيّ واقفًا أمام العواصف كأنّ الريح تُؤدّي له التحية.
وفي المقابل، تهتزّ الملامحُ التي كانت يومًا قريبة، وتفترّ الوجوه التي شاركت الملحَ والماء،
فتكشف الأيام عن حقيقةٍ طالما خبّأتها:
ليس كلُّ الرفاقِ رفاقًا،
ولا كلُّ من سار بجانبك قادرٌ على السير خلفك يوم يشتدّ الظلّ ويضيق الفضاء.
كان الرجلُ الوفيّ ـ بطيفه الرمزي الذي يفهمه اللبيب ـ كجذوةٍ لا تخبو؛
عرف أنّ العهد ليس ورقة تُقلَب،
بل دمٌ يجري، ونبضٌ لا يتبدّل.
ولذلك، حين علا غبارُ الفتن واشتدّ ظلامُ الساحات، ظلّ ثابتًا،
لا يساوم، لا يتلوّن، لا يستبدل جلدًا بجلد،
كأسدٍ تجوعُ جوارحُه ولا تأكلُ إلا ما عُرِفَ له.
وقد أعطى العهدَ يومًا لرجلٍ ظلّ يسير بجانبه سنوات،
فإذا بالدربِ الطويل يخونُ ذاكرته،
وتتنكّرُ الخطواتُ لخطواتٍ كانت يومًا تُحاذيها،
وينقلب الظهرُ على ماضٍ حافلٍ بالماء والعرق والوفاء.
ذلك أنّ بعض الوجوه، وإن تبسّمت، تُخفي بين ثناياها نصلًا باردًا،
لا يظهر إلا حين يظنّ صاحبه أنّ الريح تبدّلت،
ولا يطعن إلا حين يتهيّأ في ظنّه أن الأرض خلتْ من الشهود.
أما صاحبُ العهد، فلم يبدّل، ولم ينقلب،
بل وقف شامخًا كالطود،
يتفرّج على الأيام وهي ترفعُ جيفًا فوق سطح البحر،
بينما الدُّرُّ الثمين يستقرّ في قرارة الأعماق،
لا يراه إلا الغائصون.
وفي اللحظة التي تتكشّف فيها معادن الرجال،
يظهر من ثبّتتْه مبادئه،
ومن قيّدته الأطماعُ فانقلب على رفيقه،
فغدر بعد صحبة، ونَكَثَ بعد وعد،
كقمرٍ خبا ضوؤه أمام شمسٍ بقيت عالية لا يكسفها شيء.
وهكذا، يظلّ الوفاءُ ـ في زمنٍ ضاعت فيه البوصلة ـ عملةً نادرة،
ويظلّ الصدقُ تاجًا لا يضعه كلُّ رأس.
ويبقى الرجلُ الوفيّ رمزًا لا تتخطّاه العاصفة،
يمشي على طريقه غير مكترثٍ بمن باع رفيقَ الأمس بثمن اللحظة.
أما الذين غدروا أو تنكّروا،
فإنّ الأيامَ ـ مهما طالت ـ ستُعيدُ إليهم أصداء أفعالهم،
فما من ظِلٍّ يطول إذا غاب عنه صاحبه،
ولا من قمرٍ يكتمل إذا فقد شمسَه.
ويبقى التاريخ أعدلَ القضاة؛
يضعُ الدرّ في القاع،
ويرفعُ الجيفَ فوق السطح،
ثم يترك للعيون أن تُميّز بين البريق والزيف.

