بنشاب : زرتُ مصر عدة مرات، وحرصتُ في كل زيارة أن أقتطع وقتا، وأستقل سيارة أجرة إلى منشية البكري حيث كان سكن الزعيم عبد الناصر، ثم أنزلُ باتجاه مسجد كُبري القبة حيث ضريحه، تستقبلني البوابة الخشبية الكبيرة المطلة على شارع الخليفة المأمون، تقودني إلى ضريح ناتئ عن السطح مغلّف بالمرمر الأبيض، نُقشتْ على سطحه "لا إله إلا الله، وعلى جوانبه آيات من الذكر الحكيم، وفي الواجهة نُحتَ اسم ساكنه تحت عبارة "رجل عاش لأمة واستشهد في سبيلها"..
فارقُ خطوات، فقبر زوجته تحية كاظم، .. ثم خطوات أخرى فقاعة الزوار، تنتصب في وسطها صورة كبيرة لعبد الناصر ببدلة كحلية، وتتدلى على حافة الجدار لوحة قماشية سوداء مطرّزة بالذهب، وهي تذكار من الشعب الباكستاني،.. يقابلها سجل ذهبي ضخم، جمع بلغات البشرية انطباعات ومشاعر الملوك والرؤساء والبسطاء، ومن حملتهم إليه الرغبة في الاعتراف له بجميل الصُّنع، مثلي..
في كل مرة يسألني القَيِّم البشوش: «السِّت من السّودان؟».. فأقول: «ألاَّ حكمًا، أمِّي بعدْ سُدانيَّه..»
ساكن القبر لا نرفعه لمرتبة القديسين، ولا نلصق به الكرامات ولا المعجزات.. ولسنا أتباعًا له ولا مريدين،..
نحن مجرّد منصفين لوطنيٍّ مارس السلطة لصالح وطنه، منحازا لأمته بشرف الجندي وعقيدة المجاهد وكبرياء البطل،.. وبعدل القاضي وزهد الناسك.. حقَّقَ أهدافا وأخفق في أخرى، وذلك مبلغ البشر.
إنْ تحدثت عن علاقتي بهذا الفكر سأقول مبدئيا، إن اعتناق الفكر، أي فكرٍ، ميزة وليست نقيصة، لما يمنح من وعي وسعة مدارك وعمق فهم وقدرة على تسيير الانفعالات.
على المستوى الشخصي، وهو ما يهّمني في حيني، كان لهذا الفكر مِنَّة كبيرة على تكويني، حين ناولني حرية أن أكون "أنا"، بأسلوبي الخاص في الحياة والتفكير، وأن لا أكون نسخة مقلدة من الآخرين جيدة أو رديئة،.. وحين بلَّغني منْ خيار اكتشافه بإرادتي وبإدراكِ العقل، ولم يُلزِمني طاعة الوفاء له بقيد العاطفة،.. كيف ذلك؟، مثلاً، لم يُوصِل ذهني بتيار قسريٍّ يَحصرني أو يُبقيني في دارة مغلقة مسبقا، أو يُخضعني لتبعيَّة أبدية تغيِّبني عن استدلال الوعي بمفهومه الأشمل.
كُلما نشرتُ صورة لعبد الناصر، تصلني تعليقات تُفيد ما معناه أنَّ الحديث عن الناصرية اليوم، يدخل في دائرة الخرف الفكري، وطبعا لا أجادل في حيثياتها، ولا أزيد على حذف الإساءات.
منذ آنس فضولي هذا الفكر، ما فتئتُ أحصي أفضاله الشخصية عليَّ، ومن قليلها أنه علمني أن أومن بوطن قوي، عادل، جامع لأكثر من لون وعرق، وأن لا تتنازعني الرغبات في الميل لغير ذلك حين مَدٍّ سياسي أو جزر عرقي،.. حصنني هذا الفكر من ازدواجية النظرة، بمعنى أدق من النفاق، وهو سرطان الوطن في حقبتنا الحاضرة، .. أيْ لا أكون ثانيَّ اثنين، إمَّا "امصفَّقاتي" مُبتذل طمعاً، أو "امصفقاتي" مُبجَّل وإنْ أسرَّ ذُلاًّ وخُنوعا،.. علَّمني ألاَّ أُعَمْلق تافهًا رفيعًا فأتقزَّم، وألاَّ أنجرَّ وراء مُسلمة حيوانية سائدة المبدأ وهي: «عندما تكون في الغابة، افعل ما تفعله الضواري لكيْ تسْلم، بل لكي تكون أصلا!».
حصنني أيضا من التسافل للحمية الفئوية، والعصبية القبلية، ومن أنْ أنشغل في الألفية الثالثة ببسط مَفْرش في ذهني لطواحين الهواءِ والهوَى، ووطيس عاطفة التخلف المهجور ظاهريا بين "لعرب وازوايه" مثلا، أو بين غيرهم، ولو مؤقتا على سبيل المَجاز، أو على سبيل المِزاج والتفاضل، أو على سبيل الكراهية العابرة للدين وجوار السكن في الوطن!
حصّنني هذا الفكر من أن أتخبط بين اغتيال أسئلةٍ طُرحت وما كانت لتُطرح، وارتباك تبريراتٍ طُلبت ولن تُفيد، فالغد في قناعتي الفكرية، فعلٌ جماعي يُبنى على الثقة والأدمغة والعضلات، ويَبْخَسُ حين تُطلب له تعزيزات خارجية من غابر فوقيات الأساطير والخوارق، وحين نسجنه في وهمِ تآلف مُصطنع يغلِّفه اختلاف أبدي مُعطِّل!.. لماذا؟، لغياب صدق عامٍّ مع الذَّات، ولأن الوعي بضرورة الدولة، احساس متحايل عجز عن بلوغ الحلم.
إذن، لا يُنكر ناكر أنَّ هذا الفكر، كان صانع فرقٍ ذات صحوة في هذا البلد، وأنه كما حصَّنني، حَصَّن مئات الآلاف من الشباب في مرحلة ما، وخلق لديهم وعيًا متميِّزا، نفتقر له جدًّا ساعتنا، .. طبعا تمسَّك به البعض بعد ذلك، وامتطاه البعض مثل غيره من أتباع التيارات الفكرية الأخرى، ليبلغ به فردوس الأغنياء المبني على جحيم الفقراء، فقلما تخلو برصة مداولات منفعية سياسة من بضاعة فكرية مسوقة.
لا يهم كثيرا أن نختلف حول ما كتبتُ أعلاه، فذلك من سنن تبادل الأفكار، المهم «كيف نختلف؟»،.. فلنختلف باحترام!.
تحياتي.