بنشاب : ما كان على رئيس “الأخلاق”، وهو الذي أعلن مرارا وتكرارا أنه يسعى للتغيير والإصلاح، أن يقبل باستمرار مثل هذه المشاهد الصادمة : مئات الرجال والنساء، شيوخا وشبابا، مسؤولين وموظفين، وجهاء وأئمة وعلماء، ينتظرون على مدرج المطار، لساعات طويلة، في الشمس الحارقة، أن تمر عليهم فخامته مرورا خاطفا.
هل كان من اللازم حشدهم أو اصطفافهم بهذه الطريقة المهينة للكرامة، والموغلة في الإذلال ؟ لو كان لديهم خيار، وكانوا في دولة قانون ومؤسسات، هل كانوا سيقبلون، بمحض إرادتهم وعن اقتناع، الوقوف، لساعات طويلة، في الصيف الحار، لإلقاء تحية خاطفة على الرئيس، لا تستغرق أكثر من ثوان قليلة ؟ أم أنه الإفراط في الحماس، من أجل حماية المصالح الخاصة أو البحث عن مآرب شخصية، أم أنهم، فقط، مُجبرون، ومغلوبون على أمرهم، ولا حول لهم ولا قوة، نظرا لمركزية منصب رئيس الجمهورية، وهيمنته على الدولة ومؤسساتها ومواردها، خاصة أن كل رئيس يُنْظَرُ إليه على أنه هو من “يطعم من جوع ويُؤَمِّنُ من خوف”؟
ماذا سيقول التاريخ والأجيال القادمة…عن صور مئات الشخصيات الجالسة القرفصاء في العراء، في مشهد “مهيب” ؟ لو لم يكونوا ينفذون شعيرة من شعائر ثقافة التملق السياسي التي تنفرد بها بلادنا، لَخُيِّلَ إلينا أنهم يقيمون صلاة العيد في الخلاء !
وهل النخب التي تصطف اليوم، بكل خشوع وخضوع وانكسار، لاستقبال رئيس الجمهورية، قادرة على بناء دولة أو أمة، وهل من يرضى لنفسه بمثل هذه المواقف بمقدوره تمثيل طموح شعب بالإصلاح والتنمية والعيش بكرامة؟ ثم، أليسوا هم نفس الأشخاص الذين كانوا يتدافعون لاستقبال الرئيس محمد ولد عبد العزيز، بكل حفاوة، ويتنافسون من أجل مرضاته، ويؤولون، بكل تفان، مضامين خطاباته الرئاسية، وينثرون له الدرر، ويصدحون له بالقصائد، ويتنافسون في إظهار كامل الولاء له، ويشيدون بإنجازاته ويثمنونها ؟
أمّا سكان الولايات الداخلية، فقد تعودوا على زيارات رؤساء الجمهورية، على مدى الخمسين سنة الماضية، ويدركون جيدا أن كل زيارة هي نسخة طبق الأصل من سابقاتها، ولن تكون بأفضل، إذ لن تُغير شيئا من واقعهم البائس، ولن تُخفف من معاناتهم، ولن تُحَسِّنَ من مستوى الخدمات المقدمة لهم، من ماء وكهرباء، ولن تُؤازرهم في مواجهة غلاء الأسعار وبطالة الشباب…ومع ذلك سيتكدسون، تحت الشمس الحارقة، لاستقبال الرئيس “الملهم” و”المنقذ”، “محقق الإنجازات العظيمة” التي لم يسبقه لها رئيس، الذي سيلوح لهم بيده من سيارته التي تمر عليهم بسرعة، ويتركهم على قارعة الطريق، دون أن يجد الوقت للقائهم أو الإنصات لمطالبهم. فإثارة تلك المطالب الملحة وذات الأولوية القصوى، في حضرة الرؤساء، تعكر صفو مزاجهم، إذ لا يريدون الاستماع إلا للمديح والتطبيل، والقصائد الملحمية، والخطابات التمجيدية، وتضخيم الإنجازات المتواضعة التي صرفت عليها المليارات. كما يفضلون الاجتماع مع من سيقلب لهم الحقائق، ويزيفها، ويزينها، من وجهاء، وأطر، وفاعلين محليين، ونخب تفرغ زينة الذين يؤمنون بوجوب مرافقة الرؤساء في جميع جولاتهم الداخلية.
كم سئم الشعب الموريتاني هذه الزيارات المقتصرة على موريتانيا الأعماق، تلك المناطق المعروفة بتدني مستوى الوعي، وهيمنة الوجهاء والمشايخ التقليدية. فلا نرى أبدا رئيسا يزور العاصمة انواكشوط، حيث يتواجد ثلث سكان البلاد، لأن الجولات الرئاسية لا تهدف إلى قياس نبض البلاد، ولا إلى الإنصات لتطلعات ومخاوف المواطنين، وإنما تسعى لضمان ولاء الوجهاء، عن طريق تأجيج الصراعات المحلية، والنعرات القبلية، وترسيخ الانتماء إلى القبيلة والجهة، وتكريس ثقافة الزبونية والمحسوبية، على حساب المواطنة والدولة.
كم سئم الشعب الموريتاني الزيارات الرئاسية، وما يصاحبها من طقوس كرنفالية، مملة ومتكررة. فهي، في الحقيقة، عبارة عن نزهة موسمية لنخب تفرغ زينة، ومن يدور في فلكهم، من “بشمركة”، ومطبلين، ومهرجين، يجوبون، بمناسبتها، ولايات الداخل، في قوافل من سيارات الدفع الرباعي الملوثة للبيئة، والمستفزة للسكان المحليين، لا سيما أن أغلبهم من الفقراء والمعوزين والمهمشين، الذين يعيشون في مناطق لا تتوفر فيها أدنى مقومات الحياة، والذين تنظر إليهم نخب تفرغ زينة على أنهم مجرد قطيع أغنام، وسيبقون إلى الأبد قطيع أغنام خاضع وذليل، يتم التحكم فيهم بالاحتقار والغطرسة، ولا يستحقون بنى تحتية ولا خدمات أساسية.
لقد أصبح من الضروري إلغاء، أو على الأقل مراجعة هذه الزيارات النمطية، والتي ينظر اليها الشعب على أنها تقليد لممارسات الانظمة الاستبدادية، أقرب هي للفولكلور الشعبي، وتعطي انطباعا أن الرئيس يولي كل اهتمامه للشكليات والأمور الرمزية، في الوقت الذي ينتظر منه الشعب أن يكون عمليا وديناميكيا وأكثر بساطة. فبمقدوره الوصول إلى المطار ومغادرته، بالحد الأدنى والضروري من البروتوكول، ودون حشد هذا العدد الهائل من الناس، الذين ينتظرهم من الأولويات والمشاغل الملحة، ما لا يسمح لهم بتضييع الوقت والجهد في الاستقبالات الرسمية.
الإيجابي في الموضوع هو أن الشعب أصبح ينظر إلى الزيارات الرئاسية لموريتانيا الأعماق، وما يصاحبها من هرج ومرج وصخب وبذخ، بكثير من الاستغراب والازدراء، ولم يعد يحملها على محمل الجد، خاصة في ظل زيادة مستوى الوعي الناتج عن تغير الأجيال الذي تشهده بلادنا، والنسبة الكبيرة المتزايدة من الشباب بين السكان. هذه الديناميكية ستفضي لا محالة إلى تشكيل كتلة وازنة من المواطنين الواعين، والمستعدين للمساهمة في قلب موازين القوى، وقلب الطاولة على النخب الفاسدة والوجهاء، الذين يسعون إلى إطالة تدجين الشعب، من أجل الحفاظ على مصالحهم.
يومها، سيكون المجتمع قد وصل إلى نقطة الانهيار، نظرا للتفاوت الطبقي الصارخ، والظلم الممنهج، والبطالة المتفشية، والفساد المستشري، وانعدام الأمل لدى الشباب، وانسداد الأفق. سوف يدرك المواطنون أنه لم يعد لديهم ما يخسرونه. عندئذ ستتغير المعادلة، مما قد يعصف باستقرار البلد. إذن، يتعين علينا أن نتحرك الآن، ونبادر بالقطيعة مع كل الممارسات المشينة، وبإطلاق عملية إصلاح بنيوية وشاملة، قبل أن تندلع انتفاضة، أو ثورة جياع، أو اضطرابات اجتماعية. ففي ذلك اليوم، سيخاطب الرئيس المواطنين قائلا : لقد فهمتكم، وسأضرب بيد من حديد، ولن أترك أحدا على قارعة الطريق، وأولوياتي هم الشباب، وإليكم تعهداتي وتعهداتي الموسعة. فات الأوان !
———
محمد المنير
دكتور في العلوم السياسية
خبير دولي في التنمية والحوكمة