بنشاب : ملاحظة:
سيدي الرئيس، السادة أعضاء المحكمة الموقرة،
اسمحوا لي قبل أن أدخل في الموضوع بإبداء ملاحظة تتعلق بمسألتي حرية المودَعين ظلما وقد حان إنصافهم "وبدأ بمحبوس" (خليل).. والقاضي هو حامي الحرية بقوة الدستور؛ وبوجود طرف مدني في هذا الملف! ذلك أننا في هيئة الدفاع عن الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز لم نعثر فيما لدينا لحد الآن من أوراق الملف على ما تنعقد به هذه الطرفية. وقد تقدم نقيب هيئة المحامين - منسق تلك الجماعة- بأوراق جديدة في هذا المجال أمام محكمتكم الموقرة، أخذنا نسخة منها صباح أمس، ونطلب منكم الإعذار لنا فيها في أقرب أجل!
وفيما يتعلق بالردود على ما أثير حول دفعنا المتعلق باستحالة متابعة موكلنا وعدم اختصاص القضاء العادي عملا بالمادة 93 من دستور الجمهورية الإسلامية الموريتانية، فلدي الملاحظات الأربع التالية:
1. من الواضح جدا - مع الأسف- أن مجتمعنا ونخبتنا يعانيان من ظاهرة نحسبها هينة وهي عند الله عظيمة؛ ألا وهي الإفراط في التأويل والإفتاء وشهادة الزور.. لحد جعل أحدهم لما ضاع منه مبلغ من المال أخذ يدعو الله، ويطلب من الصالحين الدعاء بأن لا يعثر على ضالته عارف! فسئل لماذا؟ قال لأنه سيتأول فيستبيح حلالي! ولا يعني هذا القول إني أحبذ الجهل وأرفض العلم. كلا.. فأنا أستحسن جدا قول محمد ولد أبنو:
وأرذل الناس طرا لو كان أنف الأنوف
ذو شيبة في الزوايا لم يدر بين الحروف.
ثم إنكم تتذكرون جميعا امتعاض رئيس أسبق من كثرة وشيوع وابتذال الفتوى، وقوله: "يفتي، يفتي، يفتي"!
وقد سارت الركبان بقول امحمد ولد أحمد يور في شهادة الزور:
ألا إن الشهود كأهل بدر يجوز لهم جميعا ما أرادوا
يؤدون الشهادة كل وقت وبعض القوم لو ردوا لعادوا.
ومن آخر طُرفها عندنا ما حدث في كيهيدي مؤخرا: فقد تنازع شريكان في حرث أحدهما بيظاني والآخر فلاني على ملكية ماكينة ري فذهبا إلى القاضي، فسألهما عن البينة فقال الفلاني إنه لا بينة لديه، وقال البيظاني إن لديه شهودا، فطلب منه القاضي إحضارهم. فخرج مسرعا إلى الشارع فلقي أحد معارفه. سأله عن سبب وجوده في المحكمة، فأجاب: أتنازع مع فلاني في مكينة، وأبحث عمن يشهد لي، فهل تشهد لي؟ قال: والله! فدخلا على القاضي. سأل القاضي الشاهد هل تشهد على أن فلانا يملك المكينة؟ قال:"والله، نشهد حَتَّ، هي الّي امخيطلي بيها دراعتي هذي"! واستوى مزهوا يعرض دراعته أمام القاضي!
وفي هذا المضمار يدخل بعض التأويلات والفتاوى والشهادات حول المادة 93! رغم وضوحها وضوح الشمس، وعدم حاجتها أو احتمالها لأي تأويل أو تفسير! ورغم كون التأويل والتفسير يكون دائما لصالح المتهم بقوة مبادئ ونصوص القانون الصريحة!
أما ما ورد في بعض تدخلات طرف الاتهام حول وجود "أفعال منفصلة" أو "أفعال شخصية" أو "تصرفات خارجية" فلا قائل به إلا في الدستور الفرنسي بعد تعديل 2007. ولم يَسْرِ ذلك التعديل على دستور موريتانيا التي استقلت عن فرنسا سنة 1960! والتي لم تُجْرِ أي تعديل على المادة 93 من دستورها منذ اعتماده سنة 1991 من طرف الشعب إلى يومنا هذا! فظلت كالتالي: "لا يكون رئيس الجمهورية مسؤولا عن أفعاله أثناء ممارسة سلطاته إلا في حالة الخيانة العظمى. لا يتهم رئيس الجمهورية إلا من طرف الجمعية الوطنية التي تبت عن طريق الاقتراع العلني... وتحاكمه في هذه الحالة محكمة العدل السامية"! فكيف - والحالة هذه- تُحَمّل هذه المادة ما لم تحمل "نصا وإعرابا..." حسب تعبير وكيل الجمهورية! ونعلل ذلك بالحديث عن عصمة الأنبياء، ونئد حصانة الرؤساء في نظام جمهوري رئاسي؟
2. أما ما تحدث عنه السيد الوكيل من قولي في أحد كتبي في مجال محاربة الفساد بوجوب "منع الجمع بين الأختين" السلطة والمال.. إلخ.. فتلك حكاية أخرى. وملخصها أن السيد وكيل الجمهورية صديقي منذ أمد، وقريبي أيضا. و"إن المعارف في أهل النهى ذمم"! وقد أهديته بعض كتبي، وها أنا أهديه كتابي الجديد سفارة الأرز! وهو - كغيره مما أُصْدِرُه- مكرس لمحاربة الفساد؛ لكونه - في نظري- العدو الأول لموريتانيا! وقد اشترطت كحل لأزمة الحكم في كتابي "أزمة الحكم في موريتانيا" - وسببها الفساد- عدم "الجمع بين الأختين" السلطة والمال.. كهدف بعيد المنال! وإن سبب مساندتي المجانية الدائمة للرئيس محمد ولد عبد العزيز هو محاربته الصادقة للفساد، وخوضه معارك ناجحة ضده، وتقليمه لمخالب بعض المفسدين! ولست مغفلا! وأميز "بين الذئب وأشفغ الحمد" وبين "محاربة الفساد" و"محاربة محاربة الفساد"! وقد لَفَتُّ انتباه الرئيس محمد ولد عبد العزيز أثناء محنة المفوض محمد الأمين ولد الداده الذي جعل منه المفسدون في مفوضية الأمن الغذائي كبش فداء، إلى وجود التيارين (محاربة الفساد، ومحاربة محاربة الفساد) في الساحة الوطنية واحتدام الصراع المصيري بينهما!
3. رأي الدكاترة: يجب نلاحظ هنا أن جميع من تكلموا في المادة 93 لا يوجد من بينهم - حسب علمي- خبير دستوري واحد.. ولا أنا أيضا! ومع ذلك فقد تحدث عنها دكاترة محترمون مثل الأستاذ الدكتور محمد محمود ولد محمد صالح والدكتور لو غرمو. ففيما يخص الأستاذ الدكتور محمد محمود ولد محمد صالح، فله رأي علمي مبني على مدى ارتباط - أو عدم ارتباط- فقرتي المادة المتعلقتين برئيس الجمهورية، والأَوْلى - في نظره- كان الارتباط، وتترتب عليه الحصانة والامتياز القضائي. وبهذا المقتضى يكون - في نظره- الدفع واردا! وإن كان من القائلين بما ذهب إليه الجدل والفقه في فرنسا على ضوء التعديلات الدستورية من "أفعال منفصلة" و"أفعال متصلة" (تنظر استشارته المنشورة في موقع "الأخبار" بتاريخ 17 يوليو2020)! وهو يوافق على عدم هدم الدستور! وهذه نقطة لقاء أخرى بيننا تضاف إلى موقفه الإيجابي من الحصانة، المبني على ارتباط فقرتي المادة المتعلقتين بالرئيس! لكنه يخشى أن يشكل دفعنا هدما للقانون الجنائي. ولعله يعني الإجراءات الجنائية! ونحن نطمئنه بأننا لا ندعو لهدم القوانين الجنائية؛ بل ندعو إلى احترام تراتبية القوانين والعمل بالأقوى والأعلى والمحكم منها في حالة تعارضها، وهو الدستور.
أما الأستاذ لو غورمو فمن الأفضل أن نترك نقاش رأيه لمناسبة أخرى تكون مخصصة للحديث عن "تصفية الحسابات السياسية" بين حزبه وموكلنا، التي تحدث عنها في مقابلته مع "بي بي سي" في بداية هذه الفتنة، أو عما تناوله اليوم من حكايات "ألف ليلة وليلة" لا يدرك فيها شهرزاد الصباح"! ولا عبرة ببعض الآراء الأخرى لتهافتها وتحاملها وضحالتها!
4. الخلاصة: إن وطننا في خطر! وقد تجاوز ذلك الخطر أبعاد الخلاف السياسي الحاصل بين المحمدين بسبب فتنة المرجعية، وانقلاب على الأغلبية وعلى إرادة الشعب! ويحتاج الآن إلى قضاء مستقل وعادل يسد الذريعة ويحمي البيضة ويرفض أن يكون أداة انتقام!
وعليه فإن محكمتكم الموقرة توجد الآن أمام خيارين لا ثالث لهما، وهما:
- الاستسلام - لا قدر الله- للضغوط الحقيقية والوهمية، والأخذ بآراء وتأويلات وتفسيرات النيابة ومن حولها، والعمل ببعض المواد الإجرائية، ونبذ مادة دستورية محكمة وواضحة وصريحة هي المادة 93، والقول برفض دفعنا المؤسس عليها. وبذلك تكون قد خرقت الدستور، وكرست الانقلاب على الشرعية الدستورية، وفتحت أبواب الفوضى والخراب في البلاد! وبذلك تكون قد جردت الرئيس الحالي واللاحق، مثلما جردت الرئيس السابق، من سلاح الحصانة والامتياز القضائي الذي يحمي رؤساء موريتانيا في نظامها الرئاسي، من تغول المؤسسات وكيد الأعداء والأصدقاء: المادة 93 من الدستور!
- العمل بالمواد 4 و89 و90 و93 من الدستور الذي يسمو على جميع قوانين البلاد، والقول بقبول دفعنا بالمادة 93 من الدستور، والتصريح بعدم الاختصاص، وببطلان إجراءات المتابعة لمخالفتها لصريح تلك المادة!
ولكم في قاضي "وادان" إسوة حسنة: "يحكى أنه حدث في إحدى ولاياتنا الشرقية جفاف شديد ورمادة، فهاجر بعض سكانها إلى أوطانهم الأصلية في آدرار؛ وخاصة مدينة وادان التاريخية. وما إن حلوا بها حتى ادعوا الاشتراك في عقارات القبيلة. كلفهم القاضي بالبينة فلم يدلوا بشيء؛ خلافا للمدعى عليهم! لم يكن أمام القاضي يومئذ دستور محكم كما لديكم اليوم. ومع ذلك فقد استنبط الحكم الصحيح من الكتاب والسنة، فحكم بالشراكة!
احتار العلماء في الأمر فسألوه. قال: رجعت إلى كتاب الله وسنة رسول الله في قول الله تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها» فحكمت بالشراكة حقنا للدماء! وعندما يزول الجفاف وتنتهي الرمادة فسوف يعود الوافدون إلى ديارهم وأموالهم، وتبقى العقارات لأهلها. وكان الأمر على ما وصف!
فالقضاء قضاءان: قضاء سياسي جائر يحكم بما يمليه السلطان من هوى، ولا يعبأ بالقانون ولا بالشرع ولا بالعرف! وقضاء عادل ينتهج سياسة قضائية تنشر العدل بين الناس، وتئد الفتن، وتحفز التنمية والبناء، وتُحَكِّمُ القانون والشرع والمعروف!
انواكشوط، 01 /02/ 2023