بنشاب : السلام عليكم .. مُساهمتي هذا الشهر في كتابات التَّفاهات لأمَّة «اقرأ»!
"اسبَايْكي".
.....ا
جرَّب العيَّال تربية الكلاب مرَّات، وفي كل مرة تختفي كلابهم في ظروف غامضة،.. وقد كانت تلك الظروف من صُنعي، فكُرهِي للصَّخب مدسوس بداخلي منذ الولادة.
في طفولتي، لم يُكن غريبًا وجود كلب حراسة في بيت من بيوتات "لكصر"، بعضها من فصائل مميَّزة جلبتها أسر "انْصاره"، ولم تكن المدينة آنئذ منكوبة باللُّصوص وجحافل المُغامرين الأجانب كما الآن،.. جُلُّ كلاب حومة حيِّنا كانت تُدعى مَبدئيا "بُوبي"،.. وفي حالتنا، اقتنينا تباعًا سلسلة كلابٍ ضخمة جميلة، بأسماء من "آلكسي" إلى "ديمس"..، ولم يكن في الأمر ما يُبهر أو يُستغرب أو يُستهجن، أو يُستقذر.. وما كانت تلك الكلاب ترفًا برجوازيا كما يُروَّجُ له الآن، وما كانت لإبعاد الناس، فكل البيوت عامرة بالوافدين والقاطنين، ولا أذيعُ سرًّا.. ذاكرة الطفولة ليست ذاكرة شكلية، هيَّ خلفية لبعض ميولنا فيما بعد.
خلال قراءتي لكتاب "ابنة الصَّياد" اكتشفتُ قيمة الكلب "اسْلوقي" الحيوية لسيِّده الصَّياد النِّمْداوي، فبينَهُما حالة انصهار والتِحامٍ غريبة،.. ما قرأتُ عنه، خلَقَ مساحة انجذابٍ إليه في مُخيِّلتي، فظلَّ يَحوم في حدود اهتمامي، إلى أن اقتنى فرد من أسرتي مجموعة كلاب من نفس الفصيلة، فطلبتُ منه أحدها،.. كان كلب صيدٍ بامتياز، طويل القامة، ضامر البطن حدَّ الإعجاز، بلون مُبرقش بديع، سريع ومنقاد، لكنَّ سُلوكه في المُعايشة متوحّش ومتخلِّف،.. فهو مُدمن لعويلٍ ليلي كئيب، يحفر بفوضوية، يوزِّع برازه بهمجية، وقد ينقلب فجأة لمخلوق مُنفصم، يدخل في اشتباكات وهمية بالنباح مع الأصوات الصادرة عن السالكين للشارع وأخرى مع القطط في عزِّ العتمة، فَفهمتُ أنِّي وقَعتُ في ورطة مع كائن عالق على مشجب الجيناتِ الوراثية لأسلافه، وقد أجرمتُ في حقه حين أجبرته على الانفصال عن هويته، ليعيش في مُعتقل اسمنتي!
في الأثناء، استأذنني ابن أخي في ترك كلبه في بيتنا لدواعي السفر، تُحفة جميلة، من فصيلة "بيشون" القريبة من "الكانيش"، قامته باتجاه الأرض (30 سم)، أقرب لحجم دمية كبيرة، بوبر وافر ومكتنز، بين الفضِّي والأسود، سلوكه متزن بشكل غريب، ويُدعى "اسبايكي" (لا أعرف أصل التسمية)،.. سلَبني هذا الكائن الإعجاب، فقلتُ "سأهنْتتهُ"، (إلِّي فيهْ وحده ما تَمرگو)، وما ورد بَينَ القوسين أهديهِ للشَّريف الحسن مولاي اعلي، أَرومُ به صَلاح الدَّارين.
عاد مالك "اسبايكي" من سفره، فأفهمته ما حصل فتنازل لي عنه تَفضُّلاً،.. وفي تعويضٍ خادع، منحته حقَّ التَّصرف في "اسلوقي" ليخلِّصَني منه، فأهداه لصديق من "أهل الحيوان" عساه يهيئ له ظروفًا في الخلاء لن تجيئ من قبلي،.. لكن بالمقابل أخبرني أنه كان يعتزم تزويج "البيشون اسبايكي" زواج صالونات، من ابنة عمٍّ له من نفس الفصيلة يملكها صديقه، لإنتاج "بيشونات" أخرى، .. وبناء عليه، عليَّ القبول باستضافة العروس جبرًا، لا منَّةً مَمْنونة،.. ففوَّضتُ وقبلتُ،..
لكن اشترطتُ فيها البلوغ وإذن الولي، وأنْ تكون "مُطيقة"، حتى لا أتورّط مع آمنة بنت المختار، و مفوضيَّات القُصر،.. وأمَّا "مُطيقة" فمصطلح "ما عينكم فيه" ظاهره فقهي، وباطنه "إباحيٌّ"، إذَا أخضعناهُ لقاموس بَنِي دَيْمانْ، مع أنِّي تعلَّمته من تعليق لإكس ولد إكس إگرك.
جاءت آنيتا!،.. كنتُ أتخيَّلها غادة من غيد الكلاب، سيَسفِك عليها "اسبايكي" وَلَهه المكبوت، فكُشف الحجاب عن مُجسَّمٍّ مَِجهريًّ لخيبة صغيرة، بالكادِ نصف طول العريس وثلث حجمه، لكنها ضعف شخصيته مرَّات، فهي لاذعة الطَّبع ومُسيطرة.. تحمل ملامحها دقَّة انثوية ملحوظة (اشفيگ بديع)، وتتغنَّج بسمتٍ ولاديٍّ كالخيال، إذْ يكاد جسمها يُساوي العدم..
التَّعارف يتطلب عُربونًا من تبادل الألفة لرفع الكُلفة، لكن المدلَّلة بَدَت لا مُبالية، تلتحف ازدراءً واضحًا بالعريس، وكأنها غير معنية باندهاشه لوجودها، وهو يَعْبر أمامها في ارتباكٍ من انبهار إلى انبهار.. وكلّما اقتربَ منها خُطوة، نَدت عنها "نَبْحَه" عسكرية صارمة، أنْ مَكَانكَ قِفْ!، فالعشق لا يَصلحُ مُهمَّة مُعجَّلة،.. وإنْ تحرَّكت سحبته خلفَها مُستسلمًا، فاتر الخُطوات، فلم يُبدِ المَبهوت حفاوة كبيرة تُناسب مُعجزة ظهور أنثى في حياته من فصيلته، ساقها الله إليه في شكل "رزق الظب"!..
تَطَلَّب كسر الصَّدمة ساعاتٍ، تَجاوز فيها العريس "اسبايكي" غَبَش اللحظة، ليفَهم أنَّ الزيارة تَخصُّه، فبدأ ينتفض لولبيًّا، كما لو كان يتجمَّل للمناسبة بإعادة ترتيب فرْوِه، مُنتعشا، فهذه أول مُواعدة جادَّة في حياته، .. وحتمًا أنَّه منذ ولادته وهو يتقلَّبُ في حضن الملل، تزجيةً لفراغ الوحدة المُتراكم، فجِنسه من كِلاب الزِّينة قليل جدًّا في المدينة.
"اسبايكي"، ودودٌ جدا بطبعه وذكي، يلتصق بي كلَّما لاطفته، يُشاغبني في خُطوات، ويَخصُّني بحَركاتٍ ليست كالحركات، يَتسلَّقُ ويَتملَّقُ كالموظف الفاشل.. بَيْد أنَّه منذُ صَادَقَ العروس المُبْتَعَثة إلينا تنكَّر لي قليلا، لم يَعُد وفاؤه حَرفيًّا كما كان،.. فأرمقهُ في عتابٍ:«أهيَّ الرَّفيقة التي أتَت إليك .. أمْ أنَّ سيدة لديك، هناك تحتل مَكاني!»،.. فَعَلَتها الماكرة "آنيتا"،.. ومع ذلك، أبقيتُ على ثقتي بأنَّ الأنثى قد تُزيح الأنثى من حِسابات الحاضر، لكن لن تلغيها من رصيد الماضي..
ابن أخي المُستَعجِل على خِلْفتهما، يُرقِّعُ أوصالَ الحُلم باستنساخ "اسبايكي" بنشر نسله، مُعوِّلاً على جاذبيَّة "آنيتا" الطاغية، ويُضْجِرُني بالسُّؤال عن "حالهما الأسري" في فُضولٍ وَقِح، وهو مِلحاح مُحترف، فأجيب: «أنِّي لم ألاحظ أكثر من رفقة رومانسية آمنة، لكن رُبما يأويَّان إلى مشاعرهما تحت وشاح السِّتر، بعيدا عن رقابة البشر،.. إحْنا مالْنا وحياتهم الخاصة جدًّا!»،.. ومنْ مَسالك التَّشكيك يَذرف الحِشريّ خيبه متوسِّلاً:«شوفيلي باط أيَّاك مَا محكوم ظهرو».
لم أستَكِن لحقيقة أنَّ "الفيافي المُسمَّى اسبايكي" يَصلح أبًا،.. لكن، ونحن نُوثِّق مفاصل الحكاية، اكتشفتُ أنه بدأ يتقمَّصُ حَسْمًا رُجوليًّا غير مألوف عنه، فينبح كل من يقترب من المدلَّلة، التي تَسُوقه من أنفه بأمر الهَوَى، فالقلبُ إليها قد هفَا،.. تَسامقَ مزاجُه الرَّائق فجأة نحو الشَّراسة، هامسًا صفيرًا أجَشّ وكاشفًا - دونَ حياءٍ- عن عواطفهِ المُعطَّلة منذ الولادة رُبَّما، (الرَّجاله فأغْمادها).. فتَردُّ عليه العروس القزمة بصوتٍ أوبْرالي مُنغَّم بالإغواء،.. (النَّاثي ما فيهم اشْويْ)، والكاريزما من عَطاء الوَاهِب،
أثارت مُهمَّة "آنيتا" الخاصة فضولَ أحد العيال، فغمزَ لي هامسًا:« يَبْتُوعْ الأخلاق، حوَّلتم بيتنا لشقق مفروشة للرُّومانسية»، ثم أردف بلهجة مَمْسوسة بالمَكر:« هذا التَّمييز الإيجابي الذي استفاد منه المحظوظ "اسبايكي"، هل سَينسَحبُ إنسانيًّا على بقية الذُّكور في الدار؟،.. هلْ من "آنيتاتٍ" لنا يا مُحسنين؟».
بعد أيامٍّ، سأطلبُ - بإذن الله- من ابن أخي اختبار هرمونات "آنيتا"، "لعلَّ إتعودْ بادْ بيها ش"، أو الاستعانة "بگبَّاظْ" عصري، المعروف اصطلاحًا (جَنيكُولُوگْ)، والبركة في طبيب الإنسانية حمَّ ولد عبد القادر.
"المنسوخة"، صِرنا نسْتعجِل رحيلها، فقد أتْعبَـتْنا شخصيَّتها الحَجريَّة، وأنهكت عواطف "اسبايكي" المسكين، الذي سأطلبُ له رسميًّا "مُكافئة نهاية المُهِّمة".
.....ا
توفيرًا لجُهد غير لازم، وقبل التعليق هنا "باخروجو" المَواعظ،.. ليَفهَم بعض سادَتي من سَاكنَةِ مُستَوْطنات الشَّكليات، أنَّ تربية كلبٍ أو حَمامَة -حتى وقتٍ قريب- لم تكن صَرْعَةً من "شطحات أهل لبرود"، وبأنَّها لاَ تجلبُ وجاهة مَدنيَّة، إلاَّ رُبَّما لمُحْدَثِ تَمدِّن، رصيده من المدنيَّة من عُمر التطبيقات الافتراضية،.. وأنه لكلٍّ منَّا تفاصيل حياته التي تُوصله إلى معنَى يَخُصُّه وحده،.. حينَ يرى مثلاً، أنَّ مِنَ الجَماد ما تحلو عشرته، وكذلك من الإنسان والحيوان..
تحياتي.